01 نوفمبر 2024
شعراء أليفون للبيع
لفت نظري، وأنا أتصفح العناوين، في مكتبةٍ زرتها، عنوان لكتاب صغير (هيا نشتر شاعرا). أخذت الكتاب، وقرّرت اقتناءه فورا، قبل أن أعرف ما هو، فالعنوان مستفز لي. الكتاب رواية قصيرة للبرتغالي أفونسو كروش، وترجمة عبد الجليل العربي، وصادرة عن دار مسكيلياني للنشر. حينما انتهيت من قراءتها، احترت في ما يمكن أن أطلق عليها من تسمية، فهي تصلح لتكون رواية، أو يومياتٍ، أو قصةً طويلة، أو شهادةً عن هذا الزمن الاستهلاكي الذي باتت تقاس فيه التفاصيل اليومية للحياة بالوزن، أو بالقيمة المادية أو بالقيمة العددية، أي بكل ما هو بعيدٌ عن العاطفة والروح والحساسية الإنسانية. قصة الرواية عن فتاة صغيرة بعمر الثانية عشرة تطلب من والدها أن يشتري لها شاعرا، تيمنا بصديقاتها اللواتي لديهن حيوانات أليفة، ينصاع الوالد لطلب ابنته، ويذهب معها إلى مخزنٍ تُعرض فيه جميع أنواع الشعراء، فتختار شاعرا هزيلا محنيّ الظهر قليلا، ومتوسط العمر. وفي البيت، تمنحه العائلة غرفة صغيرة جدا أسفل الدرج؟ ويوما بعد يوم، يتضح للفتاة الفوارق المذهلة بين اللغة الرقمية الجافة والباردة التي تستخدمها العائلة في أحاديثها اليومية والكلمات القليلة التي يقولها الشاعر، أو التي يكتبها في كل مكان، مفسحا لخيال الطفلة أن يجد له مكانا وسط القاموس الرقمي الذي تعيش فيه، لتكتشف هذه الطفلة أنها، بالخيال، يمكنها أن تصنع عالما آخر، أكثر متعة وجمالا وانفتاحا ودهشة، وأكثر قدرة على التوازن، من عالم المادّة المحسوب بدقة رقمية مذهلة.
تنتهي الرواية بأن تتخلى العائلة عن الشاعر، بسبب ضائقتها المالية، تضعه في السيارة، وتأخذه إلى أقرب غابة، وتتركه هناك تحت ظل شجرة كبيرة في الغابة. يختفي الشاعر عن ناظري الطفلة، وآخر ما تراه منه الورقة التي أخرجها، ليكتب عليها واحدةً من جمله الغريبة، تماما كما يكون آخر ما تسمعه طفلةٌ ما صوت حيوانها الأليف، حين تقرّر العائلة التخلص منه بوضعه في غابةٍ ما، بعد أن استخدمته ليسلي أطفالها، ويغير من طبيعتهم من دون أن ينتبهوا. وهو ما حدث في حياة العائلة، إذ بدأت الطفلة تكتشف التغيرات الطفيفة شيئا فشيئا، لتصبح هذه التغيرات أسلوبا في تفاصيل يوميات الحياة والعمل، ولتبقى هي تزور الشاعر في الغابة التي ترك فيها، وترى آخرين يزورون شعراء مقتنين سابقا ومتروكين في الغابة نفسها، المخصصة للشعراء الذين يتم الاستغناء عنهم!
تفضح الرواية نظرة العالم الحديث إلى قيمة الشعراء بشكل خاص، والثقافة بشكل أعم، وإلى الهامشية التي تتعامل بها المجتمعات مع هذه الشريحة من البشر (الشعراء)، فهم كائنات لطيفة وربما مدجّنة أحيانا، يمكن لوجودها أن يصنع بعض التغيير، ويمكن، في الوقت نفسه، الاستغناء عنها كليا، فالحياة اليوم لغة الأرقام، والشعر لا يأبه بالأرقام والحسابات، وإن كانت اللغة الشعرية قائمة أساسا على معادلاتٍ لغويةٍ مستمدة من علم الرياضيات، لكنها في نسيجها تفتت المعادلات، وتدخلها في الخيال، ليعطي نتيجة مغايرة وخاصة، ستكون خارجةً عن سياقات الحياة في المجتمعات الاستهلاكية.
ذكّرتني الرواية بحديثٍ كنت أجريته قبل مدة طويلة مع صديق ممثل مشهور، كان مستغربا من منشور لي على صفحتي في "فيسبوك" أقول فيه إن مصدر دخلي الوحيد كتابة المقالات في الصحافة، فهو يعلم أنني شاعرة، ولي كتب شعرية منشورة ومترجمة. أخبرته حينها أن الشعر لا يصنف مهنة، وأن غالبية دور النشر تأخذ من الشاعر كلفة طباعة كتابه، وقليلة التي لا تأخذ شيئا من الشاعر، لكن لا توجد أية دار نشر عربية تعطي للشاعر حقوقا مادية، وكأن ما يكتبه سقط متاع، ومن حسن حظه أن يجد دارا تنشر له هذا السقط! قلت له إن عدد الشعراء الذين يعيشون من شعرهم في عالمنا العربي أقل من عدد أصابع الكف الواحدة.
بعد أن أنهيت قراءة الرواية، قرّرت أن أعطيها لصديقي الممثل ليقرأها، فلربما إذا عرف كيف يجري النظر للشعراء في دولة أوروبية، مثل البرتغال، سيصدقني، ولربما سيبحث عن هذه الغابة التي يوجد فيها الشعراء الذين تم الاستغناء عنهم، أو لربما فكر أن الرواية تصلح لتكون سيناريو لفيلمٍ ما، ربما.
تنتهي الرواية بأن تتخلى العائلة عن الشاعر، بسبب ضائقتها المالية، تضعه في السيارة، وتأخذه إلى أقرب غابة، وتتركه هناك تحت ظل شجرة كبيرة في الغابة. يختفي الشاعر عن ناظري الطفلة، وآخر ما تراه منه الورقة التي أخرجها، ليكتب عليها واحدةً من جمله الغريبة، تماما كما يكون آخر ما تسمعه طفلةٌ ما صوت حيوانها الأليف، حين تقرّر العائلة التخلص منه بوضعه في غابةٍ ما، بعد أن استخدمته ليسلي أطفالها، ويغير من طبيعتهم من دون أن ينتبهوا. وهو ما حدث في حياة العائلة، إذ بدأت الطفلة تكتشف التغيرات الطفيفة شيئا فشيئا، لتصبح هذه التغيرات أسلوبا في تفاصيل يوميات الحياة والعمل، ولتبقى هي تزور الشاعر في الغابة التي ترك فيها، وترى آخرين يزورون شعراء مقتنين سابقا ومتروكين في الغابة نفسها، المخصصة للشعراء الذين يتم الاستغناء عنهم!
تفضح الرواية نظرة العالم الحديث إلى قيمة الشعراء بشكل خاص، والثقافة بشكل أعم، وإلى الهامشية التي تتعامل بها المجتمعات مع هذه الشريحة من البشر (الشعراء)، فهم كائنات لطيفة وربما مدجّنة أحيانا، يمكن لوجودها أن يصنع بعض التغيير، ويمكن، في الوقت نفسه، الاستغناء عنها كليا، فالحياة اليوم لغة الأرقام، والشعر لا يأبه بالأرقام والحسابات، وإن كانت اللغة الشعرية قائمة أساسا على معادلاتٍ لغويةٍ مستمدة من علم الرياضيات، لكنها في نسيجها تفتت المعادلات، وتدخلها في الخيال، ليعطي نتيجة مغايرة وخاصة، ستكون خارجةً عن سياقات الحياة في المجتمعات الاستهلاكية.
ذكّرتني الرواية بحديثٍ كنت أجريته قبل مدة طويلة مع صديق ممثل مشهور، كان مستغربا من منشور لي على صفحتي في "فيسبوك" أقول فيه إن مصدر دخلي الوحيد كتابة المقالات في الصحافة، فهو يعلم أنني شاعرة، ولي كتب شعرية منشورة ومترجمة. أخبرته حينها أن الشعر لا يصنف مهنة، وأن غالبية دور النشر تأخذ من الشاعر كلفة طباعة كتابه، وقليلة التي لا تأخذ شيئا من الشاعر، لكن لا توجد أية دار نشر عربية تعطي للشاعر حقوقا مادية، وكأن ما يكتبه سقط متاع، ومن حسن حظه أن يجد دارا تنشر له هذا السقط! قلت له إن عدد الشعراء الذين يعيشون من شعرهم في عالمنا العربي أقل من عدد أصابع الكف الواحدة.
بعد أن أنهيت قراءة الرواية، قرّرت أن أعطيها لصديقي الممثل ليقرأها، فلربما إذا عرف كيف يجري النظر للشعراء في دولة أوروبية، مثل البرتغال، سيصدقني، ولربما سيبحث عن هذه الغابة التي يوجد فيها الشعراء الذين تم الاستغناء عنهم، أو لربما فكر أن الرواية تصلح لتكون سيناريو لفيلمٍ ما، ربما.