شعب العراق يُسقِط الطائفية

09 سبتمبر 2018

متظاهر عراقي يرفع شارة النصر في البصرة (7/9/2018/فرانس برس)

+ الخط -
تظاهرات البصرة التي لم تهدأ إلا لتتصاعد إلى مستوى خطِر؛ بعد أن أخفقت الحكومة، والنظامُ السياسيُّ في العراق، بأحزابه، وقُواه، ومليشياته (!) في تلبية الحدّ الأدنى من مَطالب أهل البصرة الحيويَّة، هذه التظاهرات المستمرَّة، منذ أكثر من ثلاثة أشهر، لا تختلف، في الجوهر، عن تظاهُرات الموصل، في الشمال، مع اختلاف المذهب بين الجنوب والشمال.
تلك التظاهرات والاعتصامات السلمية التي بدأت في المحافظات الشمالية، أواخر 2012، وانتهت، أواخر 2013، باجتياح قوَّات الأمن ساحة الاعتصام، وتهجير الناس، وكانت طالبت بإطلاق المعتقلين، وبإصلاح العملية السياسية، وإلغاء قانون الإرهاب الذي لطالما استخدمه رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، لقمع المطالب الطبيعية المُحقَّة، إلى أن انتهى فشلُه بوقوع الموصل في قبضة تنظيم داعش.
وأوَّلُ معنى لهذا الحراك الشعبي، أو لانتفاضة البصرة الراهنة، أنه ليس طائفيَّ الدافع، أو التوجُّه، وإنما مَعيشيٌّ، ثم اجتماعيٌّ، سياسيّ، تمخَّض عن معايشةٍ فعليةٍ للمعاناة التي لم يعد ممكنا الصبرُ عليها، أو التعايُش معها، المعاناة التي نجمت عن نظامٍ سياسي طائفيّ أفاد كثيرين ممَّن استفادوا منه، على حساب حقوق العراقيِّين العاديِّين، على حساب مقوِّمات معاشهم البالغة الحيوية؛ الماء والكهرباء والعمل.
حالة فساد وهدر، لم تُضبط، ولم يكن للنظام السياسي الناشئ نشوءًا مأزوما، القدرة، أو الآليَّات التي تجعله (معقولا) قابلا لإبقاء هامشٍ من الثروة الكبيرة التي يتمتَّع بها العراق لبقيَّة الشعب.
نظام طائفي يُهمِّش الشعب فعلا، ويُسخِطه، ويُجبره على سلوك قنواته العقيمة، على الرغم من 
الفشل المحسوس الذي انتهى إليه، كما حدث في لبنان، النظام الذي احتذاه النظامُ السياسيُّ في العراق، وورث أزماتِه، حين تفاقمت أزمةُ النفايات، وأحرجت كامل النظام والدولة في لبنان، والأحزاب، وزعمائها، على اختلاف توجُّهاتهم، من القضايا الحسّاسة، إقليميا، لكن الفشل في داخل البيت لم يكن لتُغطِّي عليه الشعاراتُ، أو الأولويَّات التي فرضتها صراعاتٌ خارجية. وقد مثَّل الحراكُ في لبنان، في أغسطس/ آب 2015، وقتها، "طِلْعتْ رِيحتكُم" مؤشِّرا واضحا على سقوط ثقة اللبنانيين بالنظام والأحزاب الطائفية التي غلّبت أجنداتها على أولويات الشعب، ومثّل هذا الحراك ظاهرةً عابرةً للطوائف، ضدّها، لتجاوزها، لكن قوة النظام المادّية، (عالميا وإقليميا) وليس الفكرية، بالضرورة، هي التي تمدّه بالنفَس الاصطناعي، ربما. وهذا الاستشعار لقوة النظام الطائفي في لبنان لعله ما دفع لبنانيِّين إلى استمرار الاحتماء بالطائفة؛ إذ لم تنضج أُطُرٌ سياسية قادرة على استقطاب المواطنين، فوق أرضيَّة انقسامٍ طائفيٍّ حادٍّ، وفاعل.
والخطورة في العراق تكمن في سقوط الثقة، خصوصا، في جيل الشباب، وهم القوة الفاعلة، بمجمل الدولة والأحزاب، تمثَّل ذلك في مهاجمة المتظاهرين مقارّ الأحزاب والمليشيات، فضلا عن المباني الحكومية، ولأنّ درجة المعاناة في العراق أشدُّ مما في لبنان، كانت الاندفاعة أقوى، والأزمة أكثر استعصاءً، بسبب ارتفاع منسوب الفساد، داخليًّا، المَحْمِيّ بالمحاصصة الطائفية، وحدّة التدخُّلات، أو الإملاءات من الخارج الذي يجد تعبيرا له في تأخُّر تشكيل حكومة جديدة، مثلا.
لا يخلو أيّ نظام سياسي من أزمات، حتى الولايات المتحدة، صاحبة النظام الديمقراطي، تعرف أزمةً راهنة تعصف بإدارتها، وتطرح أسئلة على مدى كفاية الآليات والقوانين التي لم تمنع وصول رجلٍ كدونالد ترامب إلى رأس الدولة، بصلاحياته غير البسيطة، مع وجود نظامٍ مؤسّساتي، وسلطة حقيقية للقانون والمساءلة، ومع تمتُّع النظام الأميركي بقدرة واضحة على احتواء الأزمات، بتطوير نفسه، وسط حالةٍ نخبويةٍ وشعبيةٍ حيويةٍ فاعلة.
لكن ما يقلق في بلادنا، كما العراق ولبنان، أنّ النظام السياسي يعجز عن اجتراح آليَّات 
ضرورية لمعالجة أزماته؛ ما يديم معاناة الشعوب، ولو أمكن بناءُ مؤسَّسات رقابية غير مُسيَّسة، تَحُدُّ، على الأقل، من الفساد المبالَغ فيه، ومن سوء الإدارة الذي يبلغ، بسبب الاطمئنان إلى غياب المساءلة والمحاسبة، حدود الاستهتار، لو أمكن ذلك، لكان ذلك نقطةً مضيئة، وصمَّام أمان، إلى أن ينضج الوضع العام، إلى استيفاء سائر عناصر القوة والنهوض، علميا وتكنولوجيا، واقتصاديا، واجتماعيا.
ما يحدث هو دخول القوى الدولية والإقليمية على خطّ الأزمات؛ لتوظيفها في دوامة الصراعات، وقد يتحقَّق في طريق ذلك بعض التحسُّن، أو قد يؤدّي، بسبب تكافؤ القوى المتصارعة، إلى إدامة تلك الأزمات، واستهلاك الأرواح والمقدّرات، واستنزاف غير قليل من الآمال.
لذلك، لو أمكن أن يتمخَّض هذا الحراكُ في العراق عن كياناتٍ سياسيةٍ ناضجة، تمثّل تمثيلا صادقا الأغلبية الواسعة المظلومة والمُهَمَّشة، على أرضية وعي حقيقي، من دون الاكتفاء بالاندفاعات الانفعالية الغاضبة، لكَان هذا بداية الطريق إلى تغييرٍ اجتماعيٍّ سياسي، أو على الأقل، وضع حدود له.