يزدحم المشهد السياسي الجزائري في الفترة الأخيرة، بسلسلة مبادرات ودعوات تطالب بالتغيير السياسي وإنهاء حالة الارتباك الراهن، في أبعاده المتصلة بإدارة شؤون الحكم وغموض الموقف في مؤسسة الرئاسة، وتردي الوضع الاقتصادي ووصول البلاد إلى حافة الإفلاس، وارتفاع مستوى المعيشية وسط مخاوف من انفجار اجتماعي. لكن هذه المبادرات السياسية لا تكاد تجتمع في إطار توحيد الجهد أو التحرك الميداني، خصوصاً أن القوى السياسية الفاعلة، تبدو منشغلة بالهاجس الانتخابي أكثر من انشغالها بالإخفاقات وضرورات التغيير.
قبل أيام، طرحت ثلاث شخصيات رفيعة مبادرة سياسية تدعو إلى التغيير وتطالب بقطع الطريق على محاولات تمهيد الطريق لولاية رئاسية خامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة في الانتخابات المقبلة المقررة في ربيع 2019. وسبقت هذه المبادرة، إطلاق الناشط السياسي، وزير التجارة الأسبق، نور الدين بوكروح، لمبادرة تدعو إلى الثورة السلمية من أجل التغيير السياسي، فضلاً عن مبادرات شبابية يقودها ناشطون يحاولون تحريك المياه الراكدة في الشارع الجزائري. لكن هذه المبادرات، إضافة إلى تعدد مصادرها، لم تتبلور حتى الآن في إطار يؤهلها للبحث عن مسارات لمناوشة السلطة القائمة بشكل جدي، وبما يعزز من فرص تغيير المسار الذي تسير فيه السلطة بقيادة بوتفليقة ومحيطه في الرئاسة.
ومشكلة هذه المبادرات ليست فقط بعدم تجمعها في إطار موحد على الرغم من تقاطعها في تحليل الأوضاع، بل في توقيتها أيضاً، إذ تم طرحها في خضم مناخ انتخابي، وهو ما قد يكون توقيتاً سياسياً خاطئاً، بحسب بعض المراقبين. وبالفعل، يأتي طرحها في وقت تنهمك فيه القوى السياسية بترتيبات حول ترشيحاتها للانتخابات البلدية المقررة في 23 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وتحضير الحملة الدعائية لهذه الانتخابات التي ستنطلق في 22 أكتوبر/تشرين الأول الحالي. وفي هذا السياق، يعتبر الكاتب المتخصص في الشؤون السياسية، عبد القادر حريشان، أن "الساحة السياسية في الجزائر، وإضافة إلى الانتهاكات، تعيش حالة شلل كامل". ويتوافق موقف الناشط والإعلامي حسان واعلي، مع هذا التوصيف، إذ يقول إن "البلد في عقم سياسي، وكلما تكونت مبادرة أو موقف شريف وقوي يتم تجاهلها، وحتى الصحافة صرفت عنها النظر، وغالبية السياسيين أصبحوا في موقع ضعف وحسابات ضيقة"، وفق تعبيره.
ويعترف الجنرال رشيد بن يلس، وهو أحد الموقعين على بيان "التحذير قبل التغيير"، إضافةً إلى وزير الخارجية الأسبق، أحمد طالب الإبراهيمي، والناشط الحقوقي علي يحيى عبد النور، في تصريح صحافي، بأن "المبادرات الفردية أو مبادرات مجموعة أشخاص مثلنا نحن الثلاثة، ليس لها أي تأثير على أصحاب القرار". ويضيف أنه "لا بد من إطار منظم والأحزاب هي الوحيدة القادرة على توفير هذا الإطار (لا سيما) الأحزاب التي تلتزم ببرنامج مشترك". ويتابع قائلاً إنه يقصد بشكل خاص "بعض أحزاب المعارضة التي لديها انتشار وطني وإمكانات بشرية ومادية تسمح لهم بتأطير الشعب". لكن الكاتب المختص في الشؤون السياسية، عبد القادر حريشان، يعتقد بأن هناك جملة من العوامل التي تحد من صدقية المبادرات السياسية للقوى والشخصيات في الوقت الراهن. ويشير إلى أنه "ليس الظرف فقط وإنما الساحة ككل، كما أن انخراط جزء من قوى المعارضة، سواء شخصيات أو أحزاب سياسية في دعم الرئيس بوتفليقة منذ عام 1999، وضع المعارضة بين قوسين"، وفق تعبيره. ويقول "نحن اليوم نرى نتيجة تقلب المعارضة في مساراتها ومواقفها، وجزء من عدم التفاعل مع المبادرات السياسية يعود إلى هذا السبب".
وفي السياق نفسه، يؤكد المحلل السياسي، مهدي براشد، أن المشكلة في "مبادرة نور الدين بوكروح، التي دعت الجيش إلى التدخل وتفعيل المادة 102 من الدستور التي تتحدث عن شغور منصب الرئاسة، بسبب مرض الرئيس"، أنها صادرة عن شخص كان مؤيداً لبوتفليقة، وأثنى على تمكنه من ولاية ثالثة، كما كان وزيراً للتجارة في حكومته، كما أن هناك من يقول إنه كان يكتب لبوتفليقة خطاباته، حسبما ذكر براشد.
اقــرأ أيضاً
وينطبق هذا الأمر على أحزاب سياسية كانت تدعم بوتفليقة حتى عام 2012، ودعمت تعديل الدستور عام 2008، لتمكينه من الترشح للرئاسة في انتخابات إبريل/نيسان 2009، كحركة "مجتمع السلم" المعارضة حالياً.
ويشير مراقبون إلى أن طرح أكثر من مبادرة سياسية في توقيت واحد دليل على تسابق عدة أطراف في المعارضة من أجل التموضع للمرحلة المقبلة، أي مرحلة ما بعد بوتفليقة، أو للوصول إلى السلطة أو التفاوض معها على شروط المشاركة في الحكومة.
وفي هذا الصدد، يطرح المحلل براشد ملاحظة أخرى تتعلق بالمبادرات السياسية الأخيرة في الجزائر. ويقول إنها تفتقد إلى إطار منظم يمكن أن يحولها إلى حراك ميداني. ويعتقد أن إطلاق بعض الشخصيات السياسية لمبادرات كهذه، من دون إطار سياسي وأجندة وخطة تحرك، يجعلها إعلاناً عن موقف أو تحليل وضع أكثر منها مبادرة بالمعنى الذي يفهم منه سياقات التغيير. ويلفت إلى أن "المبادرات السياسية الجديدة ليست وليدة اليوم، فمبادرة الثلاثي طالب الإبراهيمي وعلي يحيى عبد النور ورشيد بن يلس ودعوتهم إلى ضرورة التحرك لمنع ولاية خامسة للرئيس بوتفليقة ليست الأولى، ففي فبراير/شباط 2010، أطلق الثلاثي نفسه المبادرة ذاتها ولأهداف مماثلة تماماً، وهي منع ولاية رابعة". ويتابع أن "المشكلة هي أن مثل هذه المبادرات الصادرة عن شخصيات ليس لها انتماء عضوي مع أحزاب سياسية تكاد تكون مبادرات من قبيل تخليص الذمة" تجاه وضع لا يحتمل السكوت، ولا يتعدى مفعولها الصدى الإعلامي" وفق تعبيره.
ويبيّن مهدي براشد أن قبول قوى المعارضة باللعبة السياسية والانتخابية بقواعدها التي تفرضها السلطة، أزال الصدقية أيضاً من المبادرات الداعية إلى التغيير. ويقول إن "هناك بعض المعارضة الراديكالية التي ترى أن أي انخراط في اللعبة السياسية كما تسطرها السلطة هو انزلاق لتكريس ديمقراطية الواجهة، ولعل حزب جيل جديد أفضل من يعبر عن هذا التوجه، لكن أكثر قوى المعارضة تأثيراً وحضوراً في الساحة، قبلت باللعبة داخل الأطر المؤسساتية من مبدأ عدم ترك الكرسي شاغراً، أمثال جبهة القوى الاشتراكية وحزب العمال وحركة مجتمع السلم التي تريد انتهاج السياسة نفسها وتشارك في الاستحقاقات الانتخابية"، وفق تعبيره.
ومع كل احتقان سياسي واجتماعي تظهر سلسلة مبادرات سياسية في الجزائر. لكن عقدة هذه المبادرات أنها تبحث عن تغيير آني وسريع من دون التمهيد له. وبحسب الكاتب حريشان، فإن "المجتمع السياسي والمدني" في حالة ترقب إلى ما قد يحدث من مساوئ وقد بات الوضع يشبه ذلك الذي كانت عليه البلاد قبل أحداث أكتوبر/تشرين الأول 1988"، مشيراً إلى أن حدوث مجرد شرارة قد يؤدي إلى كارثة.
وتلك مشكلة أخرى يحذر من مخاطرها مراقبون يتساءلون عن أسباب عدم تفاعل الرأي العام مع المبادرات السياسية ودعوات التغيير، إلى حد يعطي صورة عن شلل تام في المشهد الجزائري. وفي هذا المضمار، يقول براشد إن "الرأي العام متذمر إلى حد كبير، ليس فقط من الوضع الاجتماعي المتردي الذي من المرجح أن يزداد سوءاً في الأشهر القليلة المقبلة بفعل خيارات الحكومة لمواجهة الأزمة الاقتصادية والمالية للبلاد، بل من استمرار الوجوه السياسية نفسها، ومن الخطاب السياسي نفسه، لكن الرأي العام لا يبدي حتى الآن حراكاً ظاهراً ويبدو وكأنه أدار ظهره لما يحدث"، على حد تعبيره.
ولا تزال قوى الاعتراض السياسي، أحزاباً وجمعيات، تفتش عن أفضل السبل لإحداث تحول في منظومة الحكم في الجزائر بأقل كلفة ممكنة، وهو ما يفسر انقلاب الصورة. فالحالة الجزائرية هي الوحيدة التي تبحث فيها قوى المعارضة عن سبل لدفع السلطة إلى الحوار، بدلاً من أن تكون السلطة هي التي تطلب ذلك، إذ لا تملك المعارضة كثيراً من أوراق الضغط ولم تترجم مبادراتها السياسية حتى الآن إلى إطار فاعل، يغير من مواقف السلطة ويحد من هروبها المستمر إلى الأمام بدلاً من التصدي الفعلي للحال المتردي في البلاد.
اقــرأ أيضاً
قبل أيام، طرحت ثلاث شخصيات رفيعة مبادرة سياسية تدعو إلى التغيير وتطالب بقطع الطريق على محاولات تمهيد الطريق لولاية رئاسية خامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة في الانتخابات المقبلة المقررة في ربيع 2019. وسبقت هذه المبادرة، إطلاق الناشط السياسي، وزير التجارة الأسبق، نور الدين بوكروح، لمبادرة تدعو إلى الثورة السلمية من أجل التغيير السياسي، فضلاً عن مبادرات شبابية يقودها ناشطون يحاولون تحريك المياه الراكدة في الشارع الجزائري. لكن هذه المبادرات، إضافة إلى تعدد مصادرها، لم تتبلور حتى الآن في إطار يؤهلها للبحث عن مسارات لمناوشة السلطة القائمة بشكل جدي، وبما يعزز من فرص تغيير المسار الذي تسير فيه السلطة بقيادة بوتفليقة ومحيطه في الرئاسة.
ويعترف الجنرال رشيد بن يلس، وهو أحد الموقعين على بيان "التحذير قبل التغيير"، إضافةً إلى وزير الخارجية الأسبق، أحمد طالب الإبراهيمي، والناشط الحقوقي علي يحيى عبد النور، في تصريح صحافي، بأن "المبادرات الفردية أو مبادرات مجموعة أشخاص مثلنا نحن الثلاثة، ليس لها أي تأثير على أصحاب القرار". ويضيف أنه "لا بد من إطار منظم والأحزاب هي الوحيدة القادرة على توفير هذا الإطار (لا سيما) الأحزاب التي تلتزم ببرنامج مشترك". ويتابع قائلاً إنه يقصد بشكل خاص "بعض أحزاب المعارضة التي لديها انتشار وطني وإمكانات بشرية ومادية تسمح لهم بتأطير الشعب". لكن الكاتب المختص في الشؤون السياسية، عبد القادر حريشان، يعتقد بأن هناك جملة من العوامل التي تحد من صدقية المبادرات السياسية للقوى والشخصيات في الوقت الراهن. ويشير إلى أنه "ليس الظرف فقط وإنما الساحة ككل، كما أن انخراط جزء من قوى المعارضة، سواء شخصيات أو أحزاب سياسية في دعم الرئيس بوتفليقة منذ عام 1999، وضع المعارضة بين قوسين"، وفق تعبيره. ويقول "نحن اليوم نرى نتيجة تقلب المعارضة في مساراتها ومواقفها، وجزء من عدم التفاعل مع المبادرات السياسية يعود إلى هذا السبب".
وفي السياق نفسه، يؤكد المحلل السياسي، مهدي براشد، أن المشكلة في "مبادرة نور الدين بوكروح، التي دعت الجيش إلى التدخل وتفعيل المادة 102 من الدستور التي تتحدث عن شغور منصب الرئاسة، بسبب مرض الرئيس"، أنها صادرة عن شخص كان مؤيداً لبوتفليقة، وأثنى على تمكنه من ولاية ثالثة، كما كان وزيراً للتجارة في حكومته، كما أن هناك من يقول إنه كان يكتب لبوتفليقة خطاباته، حسبما ذكر براشد.
وينطبق هذا الأمر على أحزاب سياسية كانت تدعم بوتفليقة حتى عام 2012، ودعمت تعديل الدستور عام 2008، لتمكينه من الترشح للرئاسة في انتخابات إبريل/نيسان 2009، كحركة "مجتمع السلم" المعارضة حالياً.
ويشير مراقبون إلى أن طرح أكثر من مبادرة سياسية في توقيت واحد دليل على تسابق عدة أطراف في المعارضة من أجل التموضع للمرحلة المقبلة، أي مرحلة ما بعد بوتفليقة، أو للوصول إلى السلطة أو التفاوض معها على شروط المشاركة في الحكومة.
وفي هذا الصدد، يطرح المحلل براشد ملاحظة أخرى تتعلق بالمبادرات السياسية الأخيرة في الجزائر. ويقول إنها تفتقد إلى إطار منظم يمكن أن يحولها إلى حراك ميداني. ويعتقد أن إطلاق بعض الشخصيات السياسية لمبادرات كهذه، من دون إطار سياسي وأجندة وخطة تحرك، يجعلها إعلاناً عن موقف أو تحليل وضع أكثر منها مبادرة بالمعنى الذي يفهم منه سياقات التغيير. ويلفت إلى أن "المبادرات السياسية الجديدة ليست وليدة اليوم، فمبادرة الثلاثي طالب الإبراهيمي وعلي يحيى عبد النور ورشيد بن يلس ودعوتهم إلى ضرورة التحرك لمنع ولاية خامسة للرئيس بوتفليقة ليست الأولى، ففي فبراير/شباط 2010، أطلق الثلاثي نفسه المبادرة ذاتها ولأهداف مماثلة تماماً، وهي منع ولاية رابعة". ويتابع أن "المشكلة هي أن مثل هذه المبادرات الصادرة عن شخصيات ليس لها انتماء عضوي مع أحزاب سياسية تكاد تكون مبادرات من قبيل تخليص الذمة" تجاه وضع لا يحتمل السكوت، ولا يتعدى مفعولها الصدى الإعلامي" وفق تعبيره.
ومع كل احتقان سياسي واجتماعي تظهر سلسلة مبادرات سياسية في الجزائر. لكن عقدة هذه المبادرات أنها تبحث عن تغيير آني وسريع من دون التمهيد له. وبحسب الكاتب حريشان، فإن "المجتمع السياسي والمدني" في حالة ترقب إلى ما قد يحدث من مساوئ وقد بات الوضع يشبه ذلك الذي كانت عليه البلاد قبل أحداث أكتوبر/تشرين الأول 1988"، مشيراً إلى أن حدوث مجرد شرارة قد يؤدي إلى كارثة.
وتلك مشكلة أخرى يحذر من مخاطرها مراقبون يتساءلون عن أسباب عدم تفاعل الرأي العام مع المبادرات السياسية ودعوات التغيير، إلى حد يعطي صورة عن شلل تام في المشهد الجزائري. وفي هذا المضمار، يقول براشد إن "الرأي العام متذمر إلى حد كبير، ليس فقط من الوضع الاجتماعي المتردي الذي من المرجح أن يزداد سوءاً في الأشهر القليلة المقبلة بفعل خيارات الحكومة لمواجهة الأزمة الاقتصادية والمالية للبلاد، بل من استمرار الوجوه السياسية نفسها، ومن الخطاب السياسي نفسه، لكن الرأي العام لا يبدي حتى الآن حراكاً ظاهراً ويبدو وكأنه أدار ظهره لما يحدث"، على حد تعبيره.
ولا تزال قوى الاعتراض السياسي، أحزاباً وجمعيات، تفتش عن أفضل السبل لإحداث تحول في منظومة الحكم في الجزائر بأقل كلفة ممكنة، وهو ما يفسر انقلاب الصورة. فالحالة الجزائرية هي الوحيدة التي تبحث فيها قوى المعارضة عن سبل لدفع السلطة إلى الحوار، بدلاً من أن تكون السلطة هي التي تطلب ذلك، إذ لا تملك المعارضة كثيراً من أوراق الضغط ولم تترجم مبادراتها السياسية حتى الآن إلى إطار فاعل، يغير من مواقف السلطة ويحد من هروبها المستمر إلى الأمام بدلاً من التصدي الفعلي للحال المتردي في البلاد.