شباب عرب في الأجهزة الأمنية الاسكندنافية

"حين كنت مراهقاً لم أدر ما أريد أن أكون عليه. تقلبت كثيراً في خياراتي، وفي سن الثامنة عشرة وجدتني جندياً في الجيش الدنماركي أقضي خدمة إلزامية لعشرة أشهر، ثم تتالت عملية نضجي في العسكرية". هكذا يعرض الشاب الثلاثيني محمود منصور حياته قبل 12 سنة، فهو الذي أحضره أهله، بعمر 3 أشهر، مهاجرين إلى الدنمارك، من مخيم نهر البارد، في شمال لبنان.

كغيره من شباب عرب كبروا وترعرعوا في بلاد اسكندنافية عاش محمود صراع الهوية. كبر الشاب في بيت متدين، لأب هو إمام مسجد، وشديد التعلق بقضية فلسطين. في سنواته الدراسية، حتى المرحلة الإعدادية، درس في مدرسة عربية خاصة، وسكن في منطقة يكثر فيها المهاجرون في أحد ضواحي مدينة آرهوس، وسط غرب الدنمارك.


يكتشف محمود في الأيام الأولى في الخدمة العسكرية صعوبة الانتقال من بيئة إلى أخرى "فلم أمض سوى أيام في الجيش، حضرت الإثنين إلى ثكنة التدريب، وكنا عشرة في الغرفة، كلهم دنماركيون من قرى جنوب البلد وأنا من أصل أجنبي. فوجئت بالكراهية وطرح أسئلة وتعليقات من مثل: ماذا تفعل هنا؟ أنت لست دنماركيا! يوم الخميس، حزمت حقيبتي وغادرت الثكنة.



صُدمت أن هناك من لا يحبك في الدنمارك، فلم أكن أعلم ذلك. لم أتحمل تلك النظرة والتعليقات ومضايقتي بموسيقى الـ"هيفي ميتال". أرسل الجيش بطلبي ليخبروني بأنني بهذه الفعلة أكون فاراً وإذا لم أعد بنفسي سيحضرون دورية لإحضاري من سكني في برابراند... لكنني أخبرت الضباط بما يجري في تلك الغرفة... لم يقبلوا ذلك واستدعوا العساكر ليخبروهم بأنني رفعت شكوى بحقهم، وتلك تؤدي إلى مخالفة كبيرة. أخبرهم الضباط بأن محمود يسامحكم هذه المرة... من لحظتها انقلبت الأمور رأسا على عقب بيني وبين رفاقي في الجيش... صرت أكثر حرية وطالبت بأكل خاص وليكن نباتيا في البداية، وكنت أستبدل مع رفاقي ما أحصل عليه ببعض الأكل الذي يناسبني".

اعتبر محمود فترة الجيش "الفترة التي أنضجتني، ففي سن الثامنة عشرة كنت مليئا بالتشاؤم وغير واثق بالمستقبل. لكن بعد 10 أشهر عرفت ما أريد". ينتهي متفوقا في العسكرية بين ألفي جندي، ويقرر دراسة الثانوية العامة، متقدماً إلى الجامعة وأكاديمية الشرطة.


يقول عن فترة الجندية: "لقد قلبت مفاهيمي وغيّرت عقليتي، عززت لغتي وثقتي بنفسي وصقلت شخصيتي. لم أعد أحتاج لأن أنزل إلى المدينة برفقة 15 شاباً، كما كنا نفعل دوماً. صرت أطلب من أصحابي العرب أن يخفضوا صوت الموسيقى في السيارة وتلك الاستعراضات، صرت أقول لهم: الناس تتضايق وتأخذ صورة سلبية عنا... لأنني صرت أفهم كيف يفكر هؤلاء الدنماركيون، فآداب السلوك نقطة مهمة في المجتمع. خرجت من قوقعة لأكتشف أنه في الدنمارك يوجد بشر آخرون غيرنا، ونحن صغار كنا نظن أن الدنمارك هي فقط حيث نعيش. فهمت حينها ما معنى أن تكون دنماركياً ولك ثقافة ودين يحفظ لك الدستور ممارستهما... رغم كل المصاعب اليومية".


في أكاديمية الشرطة، وجد الشاب، الفلسطيني الأصل، نفسه أمام تحديات أخرى، منها لغوية متخصصة بلغة الشرطة والقانون وآخرى ذات طبيعة عملية، يقول "أراد معلمي إحراجي أمام الزملاء أثناء الدروس، فراح يطرح أسئلة عجيبة باعتباري سأصبح شرطياً مسلماً: لو استوقفت منقبة كيف ستتصرف معها؟ أراد أن يتحداني حيث استخلص بأنه لا يمكن للمرء أن يكون مسلماً وشرطياً في الوقت نفسه... رفعت القضية إلى قيادة الشرطة وذهب معي ممثل عن طلبة الشرطة ليجري توبيخ المعلم وإيقافه عن طرح هذه التعليقات الشخصية في الصف".
القلق الذي عبّر عنه والد محمود خلص إلى اتفاق بين الاثنين "ألا أخدم في مدينة آرهوس حيث يقيم أهلي والأصدقاء".

إلى جانب انقسام الأصدقاء حول خيارات أن يصير صديقهم رجل أمن "في الطرف الآخر"، واجه محمود معضلة من مسلمين يرفضون الأمر. ويقول عن ذلك: "تم طرح السؤال على الشيخ محمد العريفي في زيارته، وقال الرجل: ليس محرماً بل يجوز... فقد كانوا يحرمون الأمر هنا".
.....


في مدينة هورسنس، إلى الجنوب من المدينة التي يقطن فيها محمود وأسرته، يخدم كشرطي يومياً. ويقول عن يومياته خلال خمس سنوات: "أنت تتعلم الأخلاق في الشرطة، ولم أجد أي صعوبة في ذلك، لأنني كمسلم أفهم ما علمونا إياه: إياك والغش أو الرشوة والفساد. ترصدك كل الكاميرات، فإن ناولك أحد أي شيء لتمسك به، إياك أن تفعل ذلك، حتى لو كانت علبة بيرة صغيرة. كل شيء يمكن أن يصور ويستخدم ضدك... جهاز الشرطة هنا، وبعد أن احتككت به، أجده من أكثر الأجهزة مكافحة للفساد. صرت أفكر هم يتحدثون عن كاميرات ترصدك، وأنا أؤمن بأن الله يراقبني وتربية أهلي لي منسجمة مع مطالب التصرفات اليومية، وبذلك كنت منسجما مع كل تلك التعاليم، لأنها من صميم إيماني ومعتقدي...".


تحديات
كان محمود يسير وسط المدينة مع مراسل "العربي الجديد"، حين كان البعض يلقي عليه التحية ويخبرنا "هذا الشخص كان معي في الأكاديمية، لكنه لم ينجح في الأمر... الآن البعض بدأ التعود على وجود شرطة من أصل أجنبي في آرهوس". المفارقة بالنسبة لمحمود "في يوم إجازتي يراني الناس سائراً برفقة زوجتي المحجبة وهم يعرفونني كرجل أمن من دون أدنى مضايقة أو استغراب من الأمر...".

في عمله اليومي، وبعد 8 سنوات من انخراطه في الجهاز الشرطي الدنماركي، يجد محمود نفسه أمام تحديات يومية يتعامل معها "بكثير من التفهم، فأنت تنضج وتتفهم المحيط، والأهم إدراكي معنى المواطنة في البلد. صرت حريصاً أكثر على الدنمارك، بلدي الذي كبرت فيه ومنحني الكثير من الفرص، من دون أن يفرض عليّ تغيير ثقافتي وديني. ذلك الانسجام ساعدني في مواجهة الكثير من تحديات الحياة هنا".

يتحدث محمود منصور عن تلك التحديات التي يأمل بأن تخف "بانخراط المزيد من الشبان/ الشابات في الأجهزة الحكومية المختلفة، فيجب أن نكون مرئيين ولا يكفي أن نكون مواطنين دون مشاركة في كل نواحي الحياة، أو نبقى منعزلين... يجب أن تنعكس نسبتنا في كل ماكينة ومؤسسات الدولة والقطاع الخاص... من الإطفائية والجيش إلى الوزارات والجامعات... لا يجب أن نهرب من التحديات".

في عيد الميلاد الماضي، والدنمارك مستنفرة أمنياً بعد هجوم مسلح في فبراير/شباط 2015، كان محمود ومجموعة كبيرة من الشرطة المسلمين قد أوفدوا إلى العاصمة كوبنهاغن "لحمايتها وحماية مناطق حساسة في الوقت الذي كان فيه زملاؤنا الدنماركيون يحتفلون لأيام بأعياد الميلاد... قلت ممازحاً زملائي: "ها نحن نحميكم... أنتم تعرفون أنه لا يمكنكم التخلي عن دعمنا لكم... بهذه الطريقة يجب أن نكون مرئيين، وليس بالانعزال".

يواجه الشاب الثلاثيني اليوم تحديات أنه الشرطي الوحيد من أصل مهاجر في مدينته، وخصوصاً "نظرة الناس المسبقة أن يكون من أصول عربية من يوقفهم ويعتقلهم. لقد واجهت بعض المواقف التي يصرخ فيها شاب موقوف بكلمات عنصرية نابية... دور زميلي في الدورية أنه يتدخل فوراً فيوقف الشخص متهماً إياه بقانون مكافحة العنصرية... بالتأكيد الأمر سيأخذ وقتاً قبل التعود على مشهد وجود شرطة من أصل مهاجر، لهذا أدعو الشباب إلى الانخراط في المجتمع أكثر واستغلال كل الفرص المتاحة. فكيف تريد مجتمعاً متعدد الثقافات وأنت منعزل عنه؟".
في المدينة التي يقطن فيها محمود، آرهوس، بالفعل بدأ المشهد بالتغيّر، ذلك أن جهاز الشرطة أخذ يضم في صفوفه العديد من العرب والمهاجرين.
ما يحلم به محمود منصور هو رؤية جيله أو الشباب الذين يصغرونه "أن نكون نحن الجيل المسلم الدنماركي قدوة للأجيال القادمة، لا شيء يمنع المهاجرين ومن يتحدّرون من صلبهم أن تكون ثقافتهم وممارسة دينهم كما يريدون. وفي الوقت نفسه كل ما هو مطلوب احترام القوانين وثقافة المجتمعات. مخالفة القوانين والقيادة الرعناء والموسيقى المرتفعة واستفزاز المواطنين والاتجار بالممنوعات وغيرها من ممارسات عديدة أصلا لا علاقة لها بثقافتنا ولا ديننا... فقط فلنفكر بالتصرف وفق الآداب العامة، وحينها سنفرض احترامنا فرضاً... إضافة إلى أن التعلّم والدراسة وصون الحقوق دستورياً هو أمر مكفول قانونياً في أي بلد يقوم على دولة العدل والقانون".