سِيَر مغنّيات في السينما... تمثيل أو تقليد؟

20 فبراير 2017
داليدا (Getty)
+ الخط -
يُشكِّل "داليدا"، الروائيّ الطويل الجديد للفرنسية المغربية الأصل ليزا آزيولوس (مواليد باريس، 1965)، مدخلاً إلى قراءة نقدية تتناول أفلاماً تتعلّق بسَيِر مغنين ومغنيات، انطلاقاً من السؤال التالي: هل يُفترض بالممثل/ الممثلة أن يتشبّه، شكلاً ونُطقاً وحركةً وكيفية تعبير، بالشخصية المختارة للمشروع السينمائيّ؟ بمعنى آخر: هل المطلوب أن يُقلِّد الممثل/ الممثلة هذه الشخصية أو تلك، أم عليهما "التمثيل"، بكل ما لمفردة "تمثيل" من معانٍ درامية وإنسانية وفنية وجمالية ومعنوية؟ 

يروي "داليدا" المسار الانفعاليّ العاطفيّ للمغنية، ولمصائبها المتتالية عليها جرّاء صدمات الموت والانتحار والفُراق. لذا، فإن الإجابة تتطلّب استعادة أفلام سِير حياتية متعلّقة بمغنياتٍ، تمتلك كل واحدة منهن مُصيبة أو أكثر، لن تكون أخفّ وطأة من مصائب إيولاندا "داليدا" جيغليوتّي. وإذْ تتشابه العناوين الأساسية لمسارات المغنيات، فإن الاختلافَ شديدٌ بين النتاجات السينمائية، بمستوياتها كلّها.

ذلك أن أفلام السِيَر الحياتية تتوزّع على أنماطٍ عديدة: بعضها الأول يسرد كلّ شيء عن الشخصية المختارة، ما يؤدّي غالباً إلى عموميات وإطالة وملل. وبعضها الثاني ينتقي لحظات انقلابية في حياة تلك الشخصية، ويصوغها في لغة سينمائية متماسكة البنية الدرامية والجمالية والفنية. وبعضها الثالث يُصوِّر الشخصية بأسلوب تفكيكي، ويكشف باطناً سوسيولوجياً سيكولوجياً، له تأثير أساسيّ في تكوينها ونشأتها وآليات تفكيرها وعيشها.

في المقابل، هناك ممثلون وممثلات يفقدون أدنى قدرةٍ على تلبية الحاجات العميقة في ذات الشخصية، وفي كيفية تواصلها مع ذاتها ومحيطها، لنقصٍ في السيناريو، أو لانعدامٍ في الرؤية، أو لعجزٍ عن التمثيل، أو لاكتفاءٍ بتشابهٍ في الشكل، كمدخلٍ إلى إقناع المتفرِّج بصوابية العمل. وهذا مرتبطٌ، أساساً، بثنائية الكتابة والإخراج، لأنهما ركيزتا كلّ فيلم، وجوهر بناه المتنوّعة. بعدهما، يُمكن التوقّف عند المسائل الأخرى، التي تُشارك في صناعة الفيلم السينمائيّ، لتبيان مدى تلبيتها الشرط الإبداعي.
وهذا يُشكِّل مأزقاً جوهرياً في "داليدا"، إذْ يتداخل النص الكرونولوجيّ التأريخي العاديّ بأداءٍ مكتفٍ بتقليد الشخصية (الممثلة وعارضة الأزياء الإيطالية سْفِفَا ألفيتي)، وبغيابٍ واضح للعمق الدراميّ النفسي لداليدا، وللشخصيات الأخرى أيضاً.

المقارنة النقدية تضع "داليدا" أمام اختبارين اثنين، يُمكن الركون إليهما: "الصَبيّة" (2007) للفرنسي أوليفييه داهان، و"تينا" (1993) للبريطاني براين غيبسن.

هناك تشابه كبير بين إديث بياف، الشخصية المختارة في "الصَبيّة"، وداليدا: الغناء، والمراحل الزمنية نفسها للحضور الحياتي والفني والاجتماعي للمغنيتين، والمآسي المُعاشة بسبب انتحار حبيب، أو موت آخر، أو انكسار عاطفة، أو الإصابة بفجيعة في الروح والنفس والجسد.
لكن الفرق السينمائيّ بين الفيلمين كبيرٌ: فالفرنسية ماريون كوتيار لا تُشبه إديث بياف بالمعنى الشكليّ البحت، لأنها تخترق الجسد إلى داخله، وتتماهى معها روحياً ومعنوياً، كي تستقيم الحكاية، ويكتسب سردها السينمائي مصداقية كبيرة. كوتيار تُمثِّل، بينما ألفيتي تُقلِّد. التشابه بين كوتيار وبياف يكمن في آليات أدائية باهرة في تقديم النحول، واشتداد المرض، والتبدّل الكبير في شكل الجسد وضموره، وكيفية التعاطي مع المآسي والنجومية والأشخاص والأعمال. لكن امتلاك الممثلة تقنيات أدائية حِرفية، تبتعد بها كلّياً عن التقليد، والاهتمام الكبير بجعل التمثيل مدخلاً إلى مقاربة الشخصية، يجعلان التشابه الشكليّ مجرّد نتيجة، لا هدفاً أو مطلباً أو حاجة.

في "تينا"، تتماهى آنجيلا باسيت مع تينا ترنر، شكلاً ومضموناً ومساراً حياتياً. فالممثلة تريد أن تكون المغنّية أمام الكاميرا، وأن تعيش ألمها وتمزّقاتها، لا أن تنقل الألم والتمزّقات. إلى جانب حِرفية الأداء، هناك نصّ سينمائيّ مُحدَّد زمنه وعالمه الفني وفضاءه الإنساني بالعلاقة المضطربة بين المغنية الأميركية و"حبيبها/ زوجها" آيك ترنر. هذه إضافة إبداعية على النصّ والإخراج، اللذين يمتلكان قصّة مكثّفة زمنياً، ما يستوجب تكثيفاً درامياً وجمالياً، وما يُتيح إمكانية أكبر لاشتغال أعمق وأجمل وأكثر حيوية ونبضاً. لكن الإضافة كامنةٌ في حُسن الأداء، الذي يُعتبر إحدى اللحظات التمثيلية المهمة في السيرة المهنية لأنجلينا باسيت، علماً أن "الصبيّة" ينتمي إلى البدايات التمثيلية لماريون كوتيار، تماماً كـ "داليدا" بالنسبة إلى الممثلة، الأقل حِرفية، سْفِفا ألفيتي.

مثلٌ أخير، يختلف قليلاً عن سابقيه: "أنا لستُ هناك" (2007) لتود هاينز، الموزّع على 6 مراحل من حياة الموسيقيّ والشاعر والمغنّي بوب ديلان. فالسرد يرتكز على 6 ممثلين يؤدّون 6 وجوهٍ مختلفة في شخصيته. سينمائياً، التجربة مذهلة. تفكيك ديلان أمام كاميرا هاينس مدخلٌ إلى عوالم ذاته، وأسس نواته النفسية والسجالية والنضالية، وركائز حضوره الاجتماعيّ. التجربة أكثر إذهالاً، مع تأدية بلانشيت أحد هذه الوجوه: ممثلة تعكس جانباً من ذات فنان، وتضعه أمام مرآةٍ لتعرية جانبٍ لن يكون محكوماً بأنوثة مخبّأة، بقدر ما ينفتح على جنون لغة غنائية وموسيقية، في مقاربتها وقائع وأحوالاً.


المساهمون