قال أشرف لعمار، المخرج والكاتب العام في الجمعية الثقافية التونسية للإدماج والتكوين "أكتيف" إن التجربة التونسية في العروض السينمائية داخل السجون، منذ 2005، تطورت حتى باتت تقليداً سنوياً ناجحاً.
وأضاف لـ"العربي الجديد" أن ردود الفعل الإيجابية سمحت بافتتاح نسخ موازية لمهرجانات السينما داخل فضاءات السجون، وإقامة العرض الأول لبعض الأفلام، وقيد البحث استحداث جائزة يمنحها جمهور السجن.
يخبرنا بأسف أن اقتراح جائزة يمنحها جمهور السجون قدمه إلى نجيب عياد ذات مساء، قبيل الدورة الأخيرة من أيام قرطاج السينمائية، فأعجبته الفكرة ووعده بأن يناقشها صباح اليوم الموالي، لكن القدر كانت له كلمة أخرى، فتوفي عياد ليلاً، وانطبعت الدورة التي حملت اسمه بالفقد لغياب أحد أعلام السينما.
في زياراته العديدة إلى الأردن، استطاع لعمار من خلال مهرجان "كرامة لأفلام حقوق الإنسان" مد جسر تواصل مع إدارات السجون، آملا في جعل السينما، حقاً من حقوق السجناء رجالاً ونساء بالغين، أو في مراكز الإصلاح التي تضم محكومين من الأحداث بين 15 و18 عاماً، مفيداً بأن هذه المراكز في تونس، يشرف عليها قيمون ذوو تأهيل سينمائي أو مسرحي أو أدبي.
قدم لعمار الفيلم البولندي "لعبة الدجاج" الذي يحكي قصة توني البالغ من العمر 14 عاماً، إذ يواجه وقتاً عصيباً في المدرسة مع تعرضه للتنمر من قبل فرانك، زعيم مجموعة من الأولاد.
يقرر توني الانتقام منه، فيسرق جوالاً ويدرب نفسه على لعبة تلعبها المجموعة ويتحدى توني.
يؤكد لعمار على مقولته كلما التقى السجناء "أنا وأنتم في فضاء واحد. لننتهز الفرصة معاً، ونهرب من السجن من خلال الصورة".
ووفقاً له، فإن دخول السجن يقتضي احترام تقاليده ونزلائه، كما هي الحال لدى دخول البيوت، مشيراً إلى أن العرض السينمائي لا يكفي وحده، بل التقرب من السجناء والإنصات إليهم. في السجن كافة أطياف المجتمع التي تمنحك فرصة اختبار إنسانيتك، بقطع النظر عن القضايا والجرائم التي دين السجناء بها.
تبدأ الحكاية منذ 2005، حين دخل السجن لأول مرة مع عروض أفلام. يقول إن صدمتين ينبغي أن تقعا لدى الدخول ومعاينة المفتاح الكبير الثقيل، وهو يفتح الأبواب، ولحظة الخروج. تركت الزيارة الأولى أثرها، بعد أن عرض فيلم "بلية ودماغه العالية"، فكتب فور اختتامها مقالاً بعنوان "عارض الأفلام حامل الأمل والأحلام".
وحين يُسأل لعمار عما تشرّبه عبر السنوات من هذه العلاقة داخل حيز لا يتاح لعموم الناس، يقول إن السينما تطرح فعلاً إنسانياً، ومنه ثقافياً، ذا خصوصية لا توفرها التلفزيونات.
هنا مجال الحضور الجماعي، والمشاركة، والنقاش، ومعاينة جغرافيا وزمن خارج الروتين. هنا يأخذ ضابط السجن استراحة خارج ساعات الخدمة اليومية، التي تراقب انضباط السجين، ومعاقبته حين يتخطى حدوده.
مقابل ذلك، يواصل القول، فإن جميع من يحضرون فعاليات السينما داخل السجون، يعاينون الصدمتين "اللتين تحدثت عنهما لدى دخول السجن والخروج منه. بعضهم كان يقع في هستيريا بكاء".
من خبرته، يميل لعمار إلى التركيز أكثر على عرض الأفلام المحلية للسجناء. يبدو هذا أقرب إلى روحهم، كذلك يبدي حرصاً على القول إن إقامة أواصر طيبة مع السجناء تجعلهم يثقون بأنهم ليسوا محل استثمار، وإنما بشر في مكان يجتمع فيه بلحظة سينمائية أناس آخرون، يحاولون قدر مستطاعهم، ممارسة مسؤوليتهم الاجتماعية.
وصولاً إلى عام 2014، سنكون مع تظاهرة جديدة تحت اسم "جسور"، نفذتها "أكتيف" تفيد بأن تعرض الأفلام في نفس الوقت بين المؤسسة السجنية وأقرب دار ثقافة إليها. حققت التجربة عرض أفلام في 17 سجناً.
النتيجة أكثر حيوية في السجون الممتلئة مقابل المراكز الثقافية الفارغة، وفق قوله.
يدخل الجميع إلى فضاء واحد. يلتقي بعض السجناء أقارب أو أبناء حارة لأول مرة، وهؤلاء جميعهم غير بعيدين عن مسؤولي السجن، وصناع الأفلام، والفنيين، والنجوم كما هي الحال حين كان اللقاء الحميمي مع الفنانين هند صبري ومحمود حميدة في سجن المسعدين للنساء، ومن قبلهم الفنانة فريال يوسف في سجن المرناق.
يسرد لعمار حكايات منها، ذلك الوهم بين عروض السينما التي عاشها سجين دين بجريمة قتل، حين شرب مشروباً غازياً وشعر أنه يشرب البيرة، وبدا له أنه يشم الآن رائحة البحر.
هذا السجين الضخم البنية، المودع في سجن المهدية، أنجز مسرحية العام الماضي بعنوان "البرباشة"، وفي هذا الأسبوع تدخل مسرحية أخرى له مهرجان قرطاج المسرحي المقام في تونس.
هذه الخبرة وما حققته من نتائج لافتة، أعجبت "أيام قرطاج المسرحية"، فتقرر عام 2014 إدراجها ضمن المهرجان السينمائي المعروف.
في الدورة السادسة والعشرين من أيام قرطاج عام 2015، يكلف لعمار من قبل مدير المهرجان، ابراهيم اللطيف، بإدارة هذه الفعالية.
مع إقامة خمس دورات تتضمن عروض السجون، يمكن القول إن الأمر لم يعد عروضاً ذات حضور خجول، بل أتيحت الفرصة هذه المرة إلى افتتاح أيام قرطاج في الساحة الخارجية للسجن، مساء عقب انتهاء الدوام الرسمي، ثم إقامة العروض في باقي السجون على مدار خمسة أو ستة أيام.
صحيح أن بعض السجانين قد يسألون عن أهمية أن يضطلعوا بمهمة "تسلية" سجين مدان.غير أن هذا النقاش سرعان ما يفضي إلى احترام الدور الأخلاقي والتربوي تجاه السجين، خصوصاً أن موضوع الجريمة وإدانتها أمر مركب، يطرح من الأسئلة أضعاف، أضعاف ما يجيب عنها، حسب لعمار.