لا سابقة في التاريخ القديم أو الحديث تحيلنا إلى إمبراطور أو حاكم أو رئيس دولة أمر بإحراق مدينته. عادة تحرق المدن أو تهدم في جائحات الغزو، وكان من أعلامها هولاكو وتيمورلنك، أو الحروب بين الدول، والأمثلة مشهورة أحدها هيروشيما في الحرب العالمية الثانية. تاريخ البشرية حافل بهذا الضرب من التدمير الذي يرتد بالإنسانية الى الهمجية.
الاستثناء في التاريخ، ما اشتهر عن حرق نيرون لمدينته روما، وعزفه بالقيثارة على إيقاع ألسنة اللهب وهي تلتهمها، قيل إن الفنان الذي في داخله لم يوفر الاستمتاع بها في هذه اللحظات الرهيبة. هذا المشهد من كثرة ما تردد أصبح أشبه باليقين عن إمبراطور مجنون.
رغم نفي المؤرخين لشطط هذا اليقين. كان مجلس الشيوخ وراء إلصاق هذه التهمة به لدوافع سياسية جراء خلافاتهم معه، سوغتها بالطبع جرائمه الأخرى. ما يضع التهمة في إطار الشك هبّة الرومان في أرجاء الإمبراطورية عند موته يملؤون الشوارع متفجعين باكين على إمبراطورهم، وظلّوا يزينون قبره بالزهور لسنوات طويلة.
المؤرخ "تاسيتوس" عاصر نيرون، وكان واحداً من الذين هاجموه في كتاباتهم، روى أن لا أحد يعلم ما إذا كان الحريق نتج عن فعل متعمد أو مصادفة. فقد كان الرومان يستعملون النار للإنارة والطبخ والتدفئة، كما كانت الأبنية المرتفعة طوابقها خشبية.
عدا أن نيرون لم يكن في روما عندما اندلع الحريق، بل كان في "أنتيوم" مسقط رأسه، وهرع عائداً لحظة وصله الخبر. أمر بإيواء المشرّدين، وقدم الأموال للمسارعة في إعادة إعمارها. أما عن استمتاعه بعزف القيثارة، فلم يكتب هذه الحادثة إلا شخص يدعى "كاسيوس ديو" بعد مرور قرن ونصف.
عندما احتفت السينما بمشهد الحريق والقيثارة، لم يستطع الإيطالي بيتروليني أو الإنجليزي أوستينوف -لكي يكون المشهد المروّع مقنعاً- إلا تجسيد شخصية نيرون على أنه رجل معتوه وجبان حتى يحرق مدينته. لكن نيرون ليس بمجنون ولا معتوه. كان صاحب شخصية معقدة متعددة الجوانب، وغريبة الأطوار، كان فناناً وسفاحاً، وليس جباناً ليقدم على عمل لا يرتكبه إلا مأفون.
منذ سنوات والدول الكبرى تحاكي ما قام به مجلس شيوخ روما، وتعمل على تجاهل ما نراه يومياً، بتكريس نقيضه، فالتزوير يبدأ من الحاضر، وإلا بماذا يوصف رئيس يعمل على خراب بلده تحت شعار: أنا أو لا أحد. وعندما يعجز، يستعين بدولتين كي تساعداه على تدميرها.
هذه الكارثة المستمرة، تنال من بلد رمته أقدار التوريث الجمهوري الجائر في الحرائق طوال خمس سنوات. مؤخراً بدأ الاحتفاء بحرق حلب من قلب مسرح تدمر على إيقاع موسيقى روسية تعزفها فرقة أوركسترا مسرح مارينسكي بقيادة الموسيقار الروسي فاليري غيرغيف.
عندما يبدأ التزوير لا يستثني الموسيقى، لكن هذا شأن المؤرخين والفن. ما يعنينا هو الحاضر؛ حلب تحترق.