سيكولوجية حائل

26 مارس 2015
+ الخط -

جميلٌ أن ترى آثاراً ومباني تاريخية، لكن أن ترى التاريخ يمشي ويتبختر على الأرض أمامك، فتلك هي المعجزة، تلك هي حائل.

لسنوات طويلة وأنا أخاف من زيارتها، فأهل حائل ما إن يعلموا بأنك غريب، حتى يشحذوا سكاكينهم في وجهك، تمهيداً لذبح القعود "الجمل الصغير" إكراماً لزيارتك، لذلك خشيت زيارتها خوفاً من كرم أهلها المفرط. وزرتها في فبراير/شباط 2015، فكانت فوق الذي سمعت بكثير:

كانت مساءلةُ الرُّكبان تخبرنا عن جابر بن رباحِ أطيبَ الخبرِ

حتى اجتمعنا فلا والله ما سمعت أذني بأحسن مما قد رأى بصري

الناس هنا، يا رجل، يبحثون عن الضيوف، كما تبحث المخابرات العربية عن المعارضين، هنا يستنشقون رائحة الضيف من بعيد، كيف يمكن للكرم أن يتنفس في زمن الماديات والجشع!

هنا قصة حائل، أبناء طيء، أحفاد حاتم...
***

من عادتي أن أقوم باختبار الكرم في كل دولة أزورها، وطريقة الاختبار تبدأ بسؤال الناس في الشارع عن أحد المطاعم، ثم أدرس رد فعل الناس وكرمهم، وكانت عُمان وقطر على رأس قائمة الكرم لدي، حيث يبادر الناس بدعوتك إلى القهوة ما إن يعلموا أنك غريب، لكن حائل تفوقت عليهم جميعاً، إذ يصر أهلها على إكرامك بالمبيت أو بحاشي يليق بكرمهم قبل أن يليق بمكانك.
بدأت قصة سفري لحائل بتعليق صغير في الإنستغرام، من أحد متابعيّ يدعوني لزيارة حائل، ظننتها مجاملة من عرض المجاملات التي تأتيني في كل يوم. بعد عدة أشهر تواصلت مع صاحبي في الإنستغرام لزيارة حائل، وفوجئت من حماس الرجل، إذ أرسل إلي قائمة بالأماكن والأنشطة المقترحة، مؤكداً أنه سيكون تحت تصرفي خلال فترة الإقامة، مذكرني بقول حاتمٍ مخاطباً زوجه:

إذا ما صنعتِ الزاد فالتـمـسي لـه أكيلاً فإني لست آكـلـه وحـدي

وإني لعبد الـضـيف مـا دام ثـاوياً وما في إلا تلك من شيمة العـبـد

ومنذ ساعة وصولنا والرجل يجتهد في توفير كل ما يناسبنا، بأسلوب حاتمي وحرص كبير، كأننا أصدقاء طفولة، مع أن علاقتي معه لم تتعد بضع تعليقات على الإنترنت.

في فهم سيكولوجية أهل حائل، يجب أن تفهم سيكولوجية حاتم الطائي أولاً، إذ تَروي زوجته ماوية التي تزوجته لكرمه، وطلقته لكرمه المفرط!: "أعجب ما رأيت منه أنه أصابت الناس سنة قحط أذهبت الخف والظلف وقد أخذني وإياه الجوع وأسهرنا، فأخذتُ سفانةَ وأخذَ عدياً وجعلنا نعلّلهما حتى ناما، فأقبل عليّ يحدثني ويعللني بالحديث حتى أنام، فرفقت به لما به من الجوع، فأمسكت عن كلامه لينام، فقال لي أنمت؟ فلم أجبه فسكت، ونظر في فناء الخباء، فإذا شيء قد أقبل، فرفع رأسه فإذا امرأة، فقال ما هذا؟ فقالت يا أبا عدي أتيتك من عند صبية يتعاوون كالذئاب جوعاً، فقال لها: أحضري صبيانك فوالله لأشبعنهم فقامت سريعة لأولادها فرفعت رأسي وقلت له يا حاتم بماذا تشبع أطفالها فوالله ما نام صبيانك من الجوع إلا بالتعليل، فقال والله لأشبعنّك وأشبعنّ صبيانك وصبيانها، فلما جاءت المرأة نهض قائماً وأخذ المدية بيده وعمد إلى فرسه فذبحه ثم أجج ناراً ودفع إليها شفرة، وقال قطعي واشوي وكلي وأطعمي صبيانك، فأكلت المرأة وأشبعت صبيانها، فأيقظت أولادي وأكلت وأطعمتهم، فقال: والله إن هذا لهو اللؤم تأكلون وأهل الحي حالهم مثل حالكم! ثم أتى الحي بيتاً بيتاً يقول لهم انهضوا بالنار فاجتمعوا حول الفرس، وتقنَّع حاتم بكسائه وجلس ناحية فوالله ما أصبحوا وعلى وجه الأرض منها قليل ولا كثير إلا العظم والحافر، ولا والله ما ذاقها حاتم وإنه لأشدهم جوعاً".

مثل هذه القصة، لا تزال ماثلة أمامي في حائل، فعندما دعينا إلى العشاء، كعادتهم كل ليلة، وجدت أن أبناء عم الداعي وأصدقاءه قد انسلوا بخفة خارج المكان واحداً تلو الآخر، لنجد أنفسنا أمام الأطباق، الضيوف والداعي فقط، وهذه عادة العرب القديمة، حتى يضمنوا أن يكفي العشاء الضيف ولا يضايقه أحد في طبقه! وقس على ذلك الكثير.

وكرم الصحراء ليس مجرد عادة كريمة، بل هو نظام اجتماعي وركيزة تكافل مهمة لأهل الصحراء، جعلتهم يعيشون ويصمدون في وجه تجهّم الفيافي وبخل الأرض. ومع دخول الشعراء، تحول الكرم من ركيزة اجتماعية، إلى وسيلة تباهٍ وتفاخر اجتماعي، فما جاءنا الغنى وأصبحنا في غير حاجة للكرم، ظل الكرم سجيةً وجزءاً راسخاً في الشخصية، ولعل هذا ما قصده المتنبي:

وللنفس أخلاقٌ تدلّ على الفتى أكان سخاءً ما أتى أم تساخيا
***

مناخ حائل جبال صخرية ورمال حريرية يتاخمها طوق زراعي أخضر. المحير بالنسبة إلي هو انقلاب القاعدة المعروفة عن أهل الجبال، فهم معروفون بقساوة الطبع، وتجهم الوجه، وعناد في الرأس، مع قلة في الكلام وصفاء في القلب. لكن ما شهدته في حائل كان شيئاً مختلفاً، أسارير هشة، ولسان مرحب، وطبع ليّن. الأغرب كذلك هو أنهم لم يأخذوا من طبع الصحراء (نجد) كثيراً، إذ طبع الصحراء، هو انغلاق الفكر، وقلة اهتمام بالذوق، غيرة على المرأة، وضعف إنتاج العمل، مع حب للأصل وإكرام للغريب النسيب. فهم منفتحون جداً على الآخرين، ويكرمونك من دون السؤال عن أصلك، بعكس ما يحدث في نجد عموماً، حيث يسألونك عن أصلك أولاً ليقرروا درجة الكرم التي تتناسب مع شيفرتك الجينية.

وبالنظر في سيرة الرحالة الأجانب (الجواسيس!) الذين عبروا الجزيرة العربية، نجد أنهم وجدوا في حائل ترحيباً، بينما وجدوا في نجد تجهماً! والسبب في رأيي أن حائل لم تكن مجرد قرية أو مدينة في الجزيرة العربية، بل كانت عبارة عن بوابة شمالية ضخمة لصحراء الجزيرة. انظر إلى موقعها اليوم، فهي تبعد ساعة طيران عن الرياض والمدينة ومكة والدمام والكويت وبغداد ودمشق وعمان، إنها في نقطة متوسطة. هذا ما جعلها مدينة رقيقة القلب برغم خشونة جلدها. منفتحة على الأفكار والأديان، قابلة للعابرين من كل جهة. نجد أنه في الوقت الذي كان أبو جهل يعبد اللات في مكة، فإن حاتم الطائي كان نصرانياً، في الوقت الذي لم تكن في صحراء العرب حضارات تذكر قبل الإسلام، فإن ثمود والعماليق وغيرها من الحضارات القديمة سكنت حائل. نجد أن الأمم الكبرى مثل الفرس والروم كانت حريصة على خطب ود حائل والتقرب منها. أعتقد أن الزراعة هذبت نفوسهم، والاحتكاك الثقافي بالشام والعراق نوّر عقولهم، حتى خرجت طباعهم عن طباع الجبال والصحراء. فعلى مر العصور كانت نساؤهم يعملن في الزراعة جنباً إلى جنب الرجل، ولا يزال سوق الحريم في حائل قائماً، حيث تعمل فيه النساء بالتجارة، ولا أدري إن كان هذا كافياً لشرح اختلاف أهل حائل، أم أن الأمر فيه صبغة جينية و"عرق دساس" لا يستطيعون الفكاك منه. حيث يقال إن البوادر الأولى في كرم حاتم بدأت في هذه القصة:

(كان حاتم يرعى إبل والده، عندما أقبل عليه ثلاثة شعراء: عبيد بن الأبرص وبشر بن أبي خازم والنابغة الذبياني، وكانت وجهتهم النعمان فسألوه القِرى (أي الطعام الذي يقدم للضيف)، فنحر لهم ثلاثاً من الإبل. فقال عبيد: إنما أردنا بالقرى اللبن وكانت تكفينا بكرة. فقال حاتم: قد عرفت ولكني رأيت وجوها مختلفة وألوانا متفرقة فظننت أن البلدان غير واحدة فأردت أن يذكر كل واحد منكم ما رأى إذا أتى قومه، فقالوا فيه أشعاراً امتدحوه بها وذكروا فضله، فقال حاتم: أردت أن أحسن إليكم فصار لكم الفضل عليّ وأنا أعاهد أن أضرب عراقيب إبلي عن آخرها أو تقوموا إليها فتقسموها ففعلوا فأصاب الرجل تسعة وثلاثين ومضوا إلى النعمان. وإن أبا حاتم سمع بما فعل فأتاه فقال له: أين الإبل؟ فقال حاتم: يا أبت طوقتك بها طوق الحمامة مجد الدهر وكرما، لا يزال الرجل يحمل بيت شعر أثنى به علينا عوضا من إبلك. فلما سمع أبوه ذلك قال: والله لا أساكنك أبدا فخرج أبوه بأهله وترك حاتما ومعه جاريته وفرسه وفلوها. فقال حاتم في ذلك:

إني لعف الفقر مشترك الغنى وتارك شكلاً لا يوافقه شكلي

وشكلي شكل لا يقوم لمثله من الناس إلا كل ذي نيقة مثلي

وأجعل مالي دون عرضي جنة لنفسي وأستغني بما كان من فضل

فهل انتقلت لهم هذه الشيفرة الوراثية؟
***

"لا أطفال في حائل!"، فأطفالهم مجرد رجالٍ قصار القامة مرد الوجوه، أما حديثهم وصنيعهم فهم رجال كاملوا العقل والمنطق. ستستغرب من الشهامة التي يبديها الطفل في الترحيب والخدمة والحوار والذوق. وأنا بوصفي "رحالة" قلّما أجد أطفالاً بهذه الرجولة حول العالم! يبدو أن الجاهلي قصدهم بقوله:

إذا بلغ الفطام لنا صبيٌ تخرُّ له الجبابر ساجدينا
***

كانت معادلة حائل مثيرة بالنسبة لي، فهي تملك مخزوناً طبيعياً من مواقع التخييم الجبلية الرملية، التي تذكرني بالوادي العظيم في أميركا "Grand Canyon"، وتذكرني أيضاً بنفود (الرمال الناعمة) الزلفي، والتي تجعل تنقلك ورحلتك مختلفة. وهي تملك طبيعة بشرية مختلفة عن بقية المملكة، فهم أقل ثقافة من أهل الإحساء، لكنهم أكثر كرماً، وهم أطيب من أهل الحجاز ولكن أقل خفة دم منهم. وهم أقل التزاماً بعاداتهم من أهل الجنوب ولكن أكثر انفتاحاً منهم. وأعزم تكرار الرحلة مرة أخرى، للمتعة وللغوص أكثر في المجتمع.

وأخيراً، هناك شيء غير السخاء المادي والعزائم، إنها نفوسهم وبشاشتهم، بعض الناس يشعرونك بإن كرمهم متصنع، وأن إكرامهم لك لكي تمتدحهم، لكن في حائل، الكرم عبارة عن جدول رقراق ينساب على المدينة، من دون توقف، من دون منة، من دون شروط، ومن دون أن تحس بإنهم يتكلفون بشيء، وهذه لم أجدها في أي مكان آخر.

في زيارتك القادمة لحائل، اقرأ عن حاتم، وستجدهُ أمامك أينما تلفت.


(الكويت)

المساهمون