سياسة الرواية: طرد شهود العيان

23 فبراير 2015
حميد الكنبوهي، "رقص"، أكريليك على قماش، 200 × 200
+ الخط -

أنتجت الرواية سرديات طليقةً ومجنحةً في تخييلها الذي ﻻ يعيقه زمن، وﻻ منطق، وﻻ معقول. أعمال ﻻ تزال تسحرنا وتوهمنا في ممكناتها وتاريخيتها ومعقوليتها.

لا يمنع الرواية عن بلوغ مبتغاها هذا، إلا أن تطردها السياسة إلى أقصى الهامش أو ترجُمها ثقافة فقهية، وكلها أيديولوجيات مسيطرة بسيف الاستبداد الذي ﻻ يمكنه أن يفرض رأياً إﻻ بإخراس المجتمع وتحويل ثقافته إلى مكب ﻵثار ومآثر السلطان. ليتم له في الأخير إلغاء حقل تفتّح المجتمع وتنوّعه وصراع إراداته، الذي هو حقل السياسة.

تطبيقاً لذلك في ميدان الرواية، تفترض السلطة أن تكون رواية الأيديولوجيا دواء المجتمع، ذلك الدواء الذي لا يعالج.

فرض السياسة نفسَها على الأدب كان قد أفرز مجالين رئيسيين حاكمين في الشعر العربي الرسمي، هما: المديح والهجاء. هذان الغرضان الشعريان لم يكونا سوى آليات سياسية نموذجية في اللملمة والتجميع والتصنيف واﻹقصاء.

وقد استمر هذا التوجه في ثقافتنا وانتشر في شكل أدبي حديث هو الرواية؛ والتي كانت، من جهة أخرى، مختبر تجارب عرف أثر الاختراق، العنيف ثم الناعم، الذي قام به الغرب في ثقافتنا. ومن خلال هذا الاختراق، أعاد الغرب تشكيل مجتمعاتنا وأدرجنا كملحقات في نظامه العام.

هكذا، صار الآخر من مكوّنات ذواتنا، وصارت مشكلاته مشكلاتنا ومحطات تحوّله وتعرّفه إلى ذاته محطاتنا، وصارت روايتنا تترسم مواقع تلك الرواية وصراعاتها وتحولاتها.

زمن الثورات العربية هو تماماً فوق سكة هذا التاريخ، يحاول النجاح في رهان معجز: فتح وتحرير الحقل السياسي، كما يحاول توسيع وتخصيب الحقل الثقافي. وفي الأثناء، يعود السياسي بحاجة إلى الشكل الروائي لكي يعبّر عن موقعه وموقفه في المجتمع؛ ما دامت الرواية قد مثلت حاضناً للتعبير في زمن الاستبداد. فيتم تجهيز رواية ﻻ يعود القارئ بعدها بحاجة إلى أن يبحث في الرواية عن اعتراضه على السلطة الجديدة.

على ضوء هذا الوعي، ينبغي أن تتعرف الرواية على موقعها الجديد، كما تتعرف إلى عناصر تميزها الفني عن الموسيقى والشعر والفنون التشكيلية والمسرح والسينما والفلسفة؛ أي تعرف ممكناتها وأساليبها في اﻷخذ من كلّ منها دون أن تكون أياً منها. حتى الحقل السياسي، فهو على ذمتها لتحويل موضوعاته ودمجها في بنيتها.

إن اﻹشكالية التي يعانيها الروائي ليست حول حقه في أن يتناول في روايته موضوعاً ما قد يكون سياسياً أو تاريخياً؛ إنما في الكيفية التي ينقل بها هذه الموضوعات إلى فنه.

الرواية ليست تأريخاً مع أنها تندرج في التاريخ العام وفي تاريخها الخاص. والرواية ليست سياسةً، مع أنها يمكن أن توظف السياسي في بنائها؛ ﻷن السياسة، بما هي غلبة طرف في صراع القوى اﻻجتماعية، تعيق مجمل المجتمع من أن يصوغ تمرّده في لغة تريد التحدث بحرية. تريد أن تكون تشكيكاً وخلخلةً، ولا تريد أن تكون إملاءً ولا مجرد شاهد.


* كاتب من سورية

المساهمون