سوزان داود.. من الدراسة تحت مصباح الزيت لخبيرة بالدنمارك

26 مارس 2016
سوزان داود في حفل تكريم المرأة الفلسطينية بكوبنهاغن(العربي الجديد)
+ الخط -

في الحادية عشرة من عمرها هاجر والد سوزان تاركاً إياها مع أمها وأخواتها على أمل الالتحاق السريع به في مهجره الدنماركي، و"في الثالثة عشرة، كوني البنت البكر، وجدت نفسي في مخيم بعلبك أذهب للمدرسة واشتغل في التطريز مع أمي للحصول على قوت يومنا، فالوالد بقي ينتظر ثلاثة أعوام قبل لم شملنا وأخواتي وأخي الصغير في 1992".

في الأوساط الناشطة في كوبنهاغن اليوم سوزان ليست تلك الصبية الصغيرة، التي تصف طفولتها بالقول: "كنت أعيش أنا وأخواتي ووالداي في غرفة واحدة ندرس على الشمعة ومصباح الزيت، لكنني كنت أستمتع بطفولة حين أستمع لجدي وجدتي من طرف أبي وهم يحدثاني عن بلدنا حيفا. كنت ذكية في المدرسة رغم كل الواجبات الأخرى ومن الأوائل، زرعا في ذلك العمر أهمية الدراسة وممازحة كانوا يقولون: جاءت الدكتورة سوزان... كنا أبناء عم نتنافس، من يحصل على علامات أكبر للحصول على السكاكر والشوكولاته".

بعد هجرة طويلة لا تتردد سوزان في قول ما لديها بجرأة وصراحة وابتسامة وهي تعيد شريط طفولتها وشبابها: "كان دلو الماء أثقل مني حين كنت أحمله للغرفة في بيت جدي. أمي لم تكن متعلمة ولكن كلماتها ترن في أذني حتى اليوم: يا سوزان إياك أن تقبلي بترك الدراسة... هي سلاحك المستقبلي. في سن الثالثة عشرة كان هناك من يريد أن يخطبني للزواج، في تلك السن المبكرة واستمر الحال حتى بعد مجيئي مع أهلي إلى الدنمارك، لكني كنت حازمة، رافضة كل ذلك الأمر".

تعترف سوزان اليوم وبكل أريحية: "كنت أبكي لأشهر يومياً حين وصلت الدنمارك، فوالدي كان يقيم في أقصى جنوب البلاد ولا يوجد عرب.. لغة عربية وشوق للمخيم والأصدقاء، فاخترت كتابة رسائل كيوميات وأرسلها عبر البريد إلى لبنان، لغتي العربية أردت الحفاظ عليها. لقد كان العام الأول أصعب عام مر في حياتي وأنا المراهقة الصغيرة في محيط لا أدري كثيرا عنه، تعلمت اللغة وصرت أدرس 5 إلى 6 ساعات يومياً قائلة لنفسي: لا بد من اللحاق بهؤلاء التلاميذ وكنت أدرس ضعفي ما يدرسه الدنماركيون فأنا لم أرتد الابتدائية هنا لأكون بنفس سرعتهم اللغوية".


تنتقل عائلة سوزان إلى منطقة فيها عرب، وهي عازمة على إتمام الدراسة، يتقدم لها في سن السادسة عشرة من يريد الزواج بها في محيطها وتعود للرفض ثانية. تعترف: "انفصل والداي وسبب ذلك صدمة لي في الغربة، صرت أكره سيرة الزواج أكثر، والأذى النفسي دفعني لتذكر هدفي: الدراسة ولا شيء غيرها". أجواء الغربة التي تعترف سوزان بأنها "أثرت على دراستي، فصار تصميمي بسبب الخلافات بين والداي إلى قضاء ساعات في المكتبة العامة لأداء فروضي قبل العودة إلى البيت".

بعد أربع سنوات من وصول سوزان إلى الدنمارك كانت قد أنهت الثانوية العامة، أرادت الالتحاق بكلية الطب "لكن الشروط كانت أصعب من تلبيتها، فاخترت كلية الصيدلة لأني أحب علم الأدوية... أعترف بأني واجهت تمييزاً سلبياً بسبب أصلي في البداية، فلم تكن الكثير من الصيدليات تقبل إعطائي مكان تطبيق (تدريب) كجزء من الدراسة إلى أن وجدت صيدلية في شمال جزيرة شيلاند، شمال كوبنهاغن، حيث فوجئ هؤلاء من لغتي وهم كانوا يظنون بأنهم سيكونون أمام صبية أجنبية لا تعرف شيئا". بقيت سوزان تعمل 9 سنوات في ذات الصيدلية. 
تذكر سوزان بأنه بعد طلاق والديها بقيت والدتها المحفز الرئيس لها في الغربة "فرغم أن أمي أمية إلا أنها كانت دائما تقول لي: أريدك ألا تقعي في ذات الخطأ ولا تتركي الدراسة فهي سلاحك، وبالدراسة ستصلون لحياة أخرى مختلفة... وبقيت تربينا حتى أصبحنا 7 بنات وولدين نركز على الدراسة".

تعود سوزان بالذاكرة لمسألة الزواج، وهي تضحك لما فعلته بزوجها الشاب فادي كريم الذي تقدم إليها بعد توصية من ابن عمها في السويد: "رغم غضبي من هذه الزيارة التقليدية، حين يحضر الخاطب، وكنت أريد تطفيشه فرحت أرتدي عباية والدتي وجعلت شكلي منفراً بعد أن كنت أخاف من أن يكون شخصاً تقليدياً يطلب مني ترك الدراسة.. لم يطفش الشاب الوسيم.. وأصر على الأمر ثم تواعدنا أن نلتقي بعد تفكير.. لم يعرفني حين رآني، فقد شاهد فتاة أخرى أرادت تطفيشه بعباءة والدتها".

اشترطت سوزان أن تكمل دراستها وأن يساندها، وهو ما كان، بحسب ما تقول:" فوجئت بمساندة كبيرة منه في دراستي، وتفهم بأنه لا يمكنني الإنجاب قبل التخرج". وكانت حين أنجبت ابنها الأول فاروق لم تستطع في فترة إجازة الأمومة "الجلوس بدون فعل شيء، فدخلت الجامعة ثانية لتتخرج مرة أخرى مستشارة أدوية وتعمل في صيدلية المستشفى الرئيسي. إلى جانب فاروق صار لسوزان وفادي 3 أبناء فاروق وعمر وعلي، ورغم ذلك كانت تصر على أن تكون ناشطة في مجال الدمج وتقديم ما اكتسبته من خبرة للنساء المهاجرات عبر ندوات طبية عن الصحة والفيتامينات والمكملات الغذائية. في البلدية التي عاشت فيها كان للسياسية الاشتراكية "هنا بيور" تأثيرها على سوزان حين اقترحت عليها ترشيح نفسها لمجلس الدمج وانتخبت فيه في 2006.

تطور نشاط سوزان في السياسة حتى اختارها "حزب الشعب الاشتراكي" مرشحته في الانتخابات البلدية فاحتلت بتصويت أعضاء الحزب على ثقة أن تكون رقم 2 على اللائحة وفازت في الانتخابات بجدارة في 2009 واحتلت مقعدها لـدورة كاملة من 4 سنوات منذ يناير 2010 في لجان متعددة في بلديتها بدعم من زوجها، معتبرة بأن ذلك قدم صورة أخرى عن المرأة المهاجرة.

تقول سوزان:" حين ألقيت كلمتي في المجلس البلدي أمام بقية الأعضاء من أحزاب أخرى حول أمور عدة بما فيها الصحة والدمج والدراسة للمواطنين من كل الأصول، جلست على الكرسي مصابة بفلاش باك وأنا أسأل نفسي: هل أنا هي ذات الطفلة التي عاشت في تلك الغرفة في مخيم بعلبك وتحملت المسؤولية وهي طفلة بعد هجرة أبيها؟".

اختارت سوزان أن تشارك الآخرين قصة حياتها، فعدا عن مقالاتها التي كتبتها في الصحف الدنماركية عن مصالح المواطنين في الصحة والدمج والتمييز وغيرها من الأمور، من خلال كتاب بالدنماركية "في الطريق بعيدا عن بعلبك" 2013. وهي تركز بشكل خاص على حياتها ونشأتها وطريقها إلى النجاح وتقدمه "للدنماركيين الجدد الذين تعرضوا مثلي لظروف قاسية على أمل أن يكون ملهما لهؤلاء حتى يثقوا بأنفسهم أكثر".

تنتقد سوزان وسائل الإعلام التي تغيّب الإحصاءات التي تقول إن الشباب "وخصوصاً الصبايا من أصول مهاجرة من الجيل الثاني يحققون نجاحات وتفوقاً، بينما يجري التركيز على سلبيات فردية فحسب".

حصلت سوزان على اعتراف واسع بسبب نشاطها المستمر في شؤون عدة متعلقة بالدمج والشباب والأطفال، ولكن فلسطين تظل مركز نشاطها الكبير فجرى تكريمها في 2010 مع 8 أعضاء مجالس بلدية في سفارة فلسطين. وفازت بجائزة الدمج في 2013 بعد بروز نشاطها في قطاعات متعددة في المجتمع الدنماركي.


اقرأ أيضاً: الطبيبات الثلاث.. شقيقات فلسطينيات سجلن نجاحاً في دروب الغربة
المساهمون