سورية انتهت؟

05 يناير 2016
كاندينسكي، زيت على قماش(Getty)
+ الخط -

ربما لم نعد نحن السوريين نهتم بتأريخ ىشيء ما. كل شيء أضحى بالنسبة لنا - خلا عدد قتلانا- شيئًا ما. الأيام الثلاثمائة وست وخمسون في دفتر التقويم لم يعد لها معنى الأيام ذاتها لدى غيرنا.تضرجت مناسباتنا، يوم عيد ميلاد أحدنا يتزامن غالبًا مع يوم مجزرة وقتل وذبح وخطف وتعذيب وقصف وتهديم. ولو أراد المرء العودة إلى كل يوم من أيام عام 2015، على الأقل، لعجز فعلًا عن توثيق هذا العام سوريًا، لفرط المصائب والمجازر والقتلى والتهديم والنازحين والمنزحين قسرًا نتيجة تفتت الحياة السورية، أو نتيجة "اتفاقات هدنة" غامضة المرام، مظلمة المآل، وحاملة لمعنى أسود يقول بوجود مبضع فولاذي يريد الإجهاز على كل أمل، إذ إنه يخط مستقبلًا حالكًا وفي الوقت نفسه يمحو تاريخ المكان وحياة الناس في المكان.
في كل يوم من أيام عام 2015 ثمة سوري على الأقل، قال لمحدثه بعد نقاش "سياسي": سورية انتهت. ترن الجملة "المسبقة الصنع"، من دون نبرة تحذير، لعلها ترن في الغالب مشوبة بنوع من الأسى المشوب بالاستسلام وتقبّل "الواقع"، أو لعلها تبغي إضفاء طابع "تفكير واقعي" على قائلها. اليأس وانسداد الأفق، هما على الأغلب الدافعان الرئيسان لقول جملة مماثلة. وهما في الوقت ذاته النتيجة التي يصل إليها المرء وهو يسمع الأخبار أو يقرأها أو يشاهدها إن كان بعيدًا من سورية، منعزلًا في "منفى" ما من تلك المنافي التي تكاثرت وطبعت عام 2015 سوريًا، خاصّة بعد انتشار صورة الطفل السوري جثة ملقاة على الشاطئ التركي. ولو كان المرء في سورية، لما تعرّجت طرق الاستنتاج لديه، ليصل إلى الإقرار بالجملة: سورية انتهت. فعلى ما يبدو أن "الغرباء" الموصوفين إعلاميًا بالدواعش الأجنبية، أدّوا "مهمتهم" في قهر الناس – الباقين على قيد الحياة من بعد الذبح - وإذلالهم، ودفعهم صوب الإقرار بالجملة إيّاها. أمّا "الغرباء الجدد" فهم المرتزقة أصحاب السلطة والنفوذ الجدد، أو نسخة جديدة من "الشبيحة الوطنية"، المستولين هذه المرة على نقود - من بعد حياة - الباقين من السوريين في سورية، والمتفاخرين بـ غنائمهم، من خلال السلوك الشهير باستعراض "المال الحرام" أمام الناس. أمور كثيرة وغرباء من كل لون؛ دواعش وشبيحة بنسخ وطنية وإقليمية وعالمية، تؤدي كلّها، لا إلى روما بالطبع، ولكن إلى الجملة ذاتها: سورية انتهت. ذكر روما يحيل إلى المافيا، وهي الكلمة الأنسب للدلالة على كل من هو ضدّ السوريين شعبًا. وضدنا هذا من كل لون أيضًا، وله نسخ وطنية وإقليمية وعالمية.

لعل عام 2015 السوري، يكون كمثل عام 2006 العراقي، المكنى العام الأكثر دموية
وضحايا. لعلّنا حين ننظر في رقم العام الجديد، نفكر أننا نمشي صوب شيء "حسن"، وأن سورية لم تعد معلّقة على خشبة: ثمة من أوقف الزمن، وبدأ بنزع المسامير من جسدها المشظّى. ثمة من أبعد سورية عن وقوفها الطويل أمام عتبة القيامة، لكأنها ميت أبدي، وأتاح لأهلها صنع قيامتهم، من بعد صلبهم ودرب آلامهم.

ولئلا ينساق المرء وراء عاطفية تفتقر إلى الاتزان، لا بدّ من إعادة قراءة الجملة، وإبعاد سورية عنها، ورصد احتمال آخر:
أقالَ الفلسطينيون الأمر ذاته غداة عام 1948 الذي كسر خارطة فلسطين النحيلة؟ أقالوه في "مناسبات" أخرى، وهي كثيرة ولمّا تتوقف بعد؟ وماذا لو أنهم غداة عام النكبة قالوا: فلسطين انتهت؟ لو فعلوا واستسلموا لليأس، لانتهت فلسطين من حينها وطنًا وهوية، ولتناثرت تضحيات الناس أحياء وشهداء، ولكان "ريب الزمان حطّم الفلسطينيين كأنهم زجاج ولكن لا يعاد لهم سبك"، إن حورنا بيت أبي العلاء الشهير.

سورية لم تنتهِ ولن، ما دام أهلها متمسكين بالحياة والكلمة رغم كل شيء وكل خراب من كل نوع. لليأس "درب سدّ" بالتعبير الشامي، يناسبه ولا يناسب البلد الصغير المضموم على نفسه مدنًا وقرى، تنفتح على حضارات قديمة لكنها راسخة وعادات طيبة، سمحت لهذا المكان بالاستمرار والإشعاع منذ الزمن القديم.

لن يضيرنا مدح قليل لماضينا الذي ينسكب قطرات ذاهبة نحو الفناء، ولن يؤذينا "التغني" ببلدنا كما نفعل اليوم وكأننا "اكتشفناها" منذ قليل. قدم السوريون ضحايا كثر عام 2015، ورصد أحد التقارير مؤخرًا أن سورية هي البلد الأخطر اليوم على أهل القلم، وبصورة خاصّة على الصحفيين بمختلف أشكال مساهماتهم في التوثيق والاستقصاء والتدريب والتصوير. وقد حاز سوريون كثر أيضًا هذه العام جوائز "عالمية" عن عملهم الصحفي والتوثيقي بصورة خاصّة، ولم تنقصهم "البلاغة" في التعبير حين أتيحت لهم فرصة الكلام على منصة. الفكرة كلها تلف وتدور لتتجنب أن تقف عند سؤالٍ قاسٍ، يبتعد عن اللهجة التقريرية في جملة "سورية انتهت"، ويصوب النظر إلى المستقبل: أثمة فرصة للسوريين؟

إقرأ أيضا:نوبل للياسمين



المساهمون