سودة ثقافية

06 مايو 2019
ربّما وصل الطعم إلى حدّ التقزز (العربي الجديد)
+ الخط -
الوزن الزائد هاجس كثيرين في هذا العصر وما فيه من صورة مقولبة إعلانياً وإعلامياً وسينمائياً لرياضيين وممثلين ومغنين وعارضين من الجنسين، يتوحدون في مقاس الخصر في معظم الأحيان كدلالة على "الوزن الصحي". هناك من يعتبر أنّ الوزن الزائد "مشكلة"، وهناك من يعتبره "صحة". وحتى الأطباء باتوا يستسهلون التشخيص أحياناً، ليقولوا للشخص الذي لديه وزن زائد، ويعاني من مشكلة صحية ما، سواء في الأعضاء الحيوية أو الدم أو العمود الفقري أو العظم أو غيرها: "عليكَ أن تنزل وزنك أولاً".

على هذا الأساس تنتشر منتجات التخسيس، والعمليات الجراحية، والحميات المتنوعة التي يصل بعضها إلى حدّ الغرابة في الانقطاع نهائياً عن بعض المكونات الغذائية أو كثير منها، والانقطاع كلياً عن تناول الطعام في أوقات معينة من اليوم طوال أسابيع وشهور ربما. وينتشر معها اختصاص التغذية وخبراؤها، أو خبيراتها في معظم الأحيان، فيشتهر بعضهن ثم يخبو صيتهن، كأنّ الحميات وما معها من حلول أيضاً، ليست أكثر من موضة -أو طراز- تنفع لزمن، ثم تبطل بعدها، ويبطل معها من يروج لها.

في كلّ الأحوال، تسعى تلك الحميات، التي تمنع صاحب الوزن الزائد عن أغذية معينة نهائياً، إذا ما اعتمدت لفترة طويلة، إلى ما يعرف بـ"العادات الغذائية السليمة"، و"نمط الحياة الصحي". وهكذا يجد شخصاً اعتادت ذائقته سودة (كبد) الغنم النيّة، مثلاً، طوال عمره، فيلتذ بطعمها ورائحتها وقضمها ومضغها بل الاستماع إلى صوتها، بينما تطحنها أضراسه مع ما فيها من ليّة (الألية أو شحم الخروف)، أنّ طعمها غريب عنه إذا ما انقطع عنها فترة. قد يرضى بذلك ويعتبر أنّ ذائقته اختلفت وعليه المضيّ قدماً باتجاه ذلك "النمط الصحي" الذي يخلو مما اعتاد، وقد لا يرضى لكنّه يريد الالتزام بالحمية نوعاً ما، فيحاول ما أمكنه استعادة الطعم بإضافة ما يحسب أنّه ينقصه من نكهات؛ كالملح والتوابل والبصل والأوراق الخضراء، أو قد يغير الجزارة التي ابتاع منها إذا وصل الطعم إلى حدّ التقزز. وربما يرفض تماماً الخسارة، فيتخلى عن الحمية نفسها ويعاود نشاطه "اللحمي" ساعياً وراء طعم السودة المفقود ونكهتها الغائبة.




من يعتنق ثقافة مختلفة عن ثقافة مجتمعه، ويضطر للعودة، يواجه أزمة شبيهة إلى حدّ ما بذلك. فهل يتقوقع على عاداته الجديدة، وعلى نفسه بعد عودته وعدم قدرته على التأقلم؟ أم يتأقلم مجدداً ويستعيد ما كان عليه؟ في كلّ الأحوال، أكانت صدمات ثقافية كبيرة، أم خسارة للطعم، فإنّ خير الأمور أوسطها... فلا مانع يا خبيرات التغذية من وجبة سودة نيّة بليّتها ونعناعها وبصلها وبهاراتها أسبوعياً، أو على الأقلّ شهرياً، في تلك الحميات العجيبة التي تعتمدنها... وقس على ذلك في التغير الثقافي.
المساهمون