بعد محاولات تصدير صورة الحاكم التنويري، الهادف لإصلاح المملكة وزيادة انفتاحها على العالم المتحضر، جاء حادث احتجاز رجال الأعمال والأمراء في فندق الريتز كارلتون وإهانتهم، قبل أن يوقعوا على تنازلهم عن نسب كبيرة من ثرواتهم للحكومة، ثم حادث القتل البشع للصحافي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية بتركيا، ليكشف زيف القناع الذي يرتديه محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، والذي لم تفلح حفلات الترفيه، من غناء ومصارعة، ولا دور السينما والمسارح التي افتتحت، ولا حتى السيارات التي تقودها النساء السعوديات في شوارع الرياض، في تجميل صورة عهده.
وخلال سعيه للسيطرة على الأمور في المملكة العربية السعودية، كان الأمير الشاب قد أعلن، قبل أكثر من عامين، عن نيته بيع ما قد يصل إلى 5% من قيمة عملاق صناعة النفط العالمية، شركة أرامكو، المملوكة للحكومة، أو بمعنى أدق للأسرة الحاكمة، في المملكة، من أجل جمع مائة مليار دولار، تساعده على تنويع الاقتصاد السعودي، بعيداً عن قطاع النفط، وتحديداً في مجالات السياحة والتكنولوجيا والطاقة المتجددة، في إطار ما أطلق عليه "رؤية 2030".
ورغم عدم إعلانه عن أسلوب التقييم، أصر بن سلمان على أن قيمة الشركة لا تقل عن تريليوني دولار، تضعها على رأس قائمة شركات العالم من حيث القيمة السوقية، وهو ما رفضته العديد من بنوك الاستثمار التي كانت ترغب في شراء أسهمها. وبعد أن أعلنت نتائج أعمال الشركة في 2018، وثبت تحقيقها صافي ربح تجاوز 111 مليار دولار، لتكون أكبر شركات العالم ربحية، استقر الأمر على تقييمها بما يقرب من 1.7 تريليون دولار.
ومع غياب الشفافية عن عملية الطرح، كما هو الحال في أغلب ما يحدث في المملكة، لم يكن المستثمرون الأوروبيون والأميركيون مستعدين للشراء في شركة لا يعرفون الأسلوب الذي اتبع في تحديد قيمتها، ولا طبيعة العلاقة بين مجلس إدارتها والأسرة الحاكمة، كما العديد من النقاط الهامة الأخرى، الأمر الذي دفع الأمير العنيد لطرحها في بورصة "تداول" السعودية وحدها، رغم سابق الإعلان عن رغبته طرحها في بورصات عالمية مثل نيويورك ولندن وهونغ كونغ.
بذل الأمير وفريقه المعاون جهوداً كبيرة للوصول بقيمة الشركة لأعلى مستوى ممكن، كما لضمان مشاركة كبار المستثمرين في السعودية، والدول الخليجية الحليفة، وعلى رأسها الإمارات، في الاكتتاب. واضطرت المملكة في سبيل ذلك لتقديم حوافز مادية، في صورة ضمان حد أدنى لتوزيعات أرباح الشركة، كما تقديم أسهم مجانية لمشتري السهم في الاكتتاب الذين يحتفظون به لمدة ستة أشهر على الأقل.
ومع بدء التداول على ما تم طرحه للاكتتاب العام من أسهم الشركة يوم الأربعاء الماضي، بنسبة لا تتجاوز 1.5% من قيمة الشركة، ارتفع سعر السهم للحد الأقصى المسموح به، بعد ما رصدته وسائل إعلام عالمية من ضغوط مارستها المملكة، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، على من يسمح له بالبيع ومن لا يسمح له، خوفاً من تراجع سعر السهم، الذي ربما يثبت صحة تقييم بيوت الاستثمار العالمية، غير المتقبلة لقيمة التريليونَي دولار.
وساعد قصر الاكتتاب على المستثمرين السعوديين، وحلفائهم الخليجيين، على تسهيل السيطرة على عمليات البيع والشراء، ليرتفع السهم في ثاني أيام التداول لحده الأقصى أيضاً، فيما وُصف بأنه "شراء جماعي منسق"، ولتلامس القيمة السوقية للشركة مبلغ 2 تريليون دولار الذي حلم به بن سلمان!
وفي حين سيطرت السعادة على المستثمر السعودي الفرد، الذي اكتتب في أسهم الشركة بدافع من "الواجب الوطني"، بعد ارتفاع سعر سهم الشركة في الأيام الأولى للتداول، كان واضحاً أن ضغوطاً كبيرة مورست على كبار الأغنياء من المستثمرين السعوديين، كما موظفي الشركة، والعديد من المؤسسات السعودية المحلية، بالإضافة إلى صندوق الثروة السعودي التابع للحكومة، من أجل دفعهم لشراء كميات كبيرة من أسهم الشركة، للمساعدة في رفع سعر السهم.
ولا يعكس نجاح الأيام الأولى للتداول بأي حال نجاحاً مستداماً، كونه مدفوعاً بطلب مصطنع على سهم الشركة، لا يصدق عاقل إمكانية استمراره لأسابيع!
ورغم أن التعاملات تتم على سهم شركة تعمل وتنتج وتبيع وتحقق أرباحاً، ويتعامل بأسهمها ملايين المستثمرين، بما يمثلون من وجهات نظر مختلفة، من المتوقع أن تكون التداولات في الفترة القادمة، بعد توقف الطلب المصطنع عن التأثير في السوق، مؤشراً حقيقياً على رضى المواطن السعودي عن أداء حكومته، في ظل غياب تام لأدوات – كما الرغبة في – قياس الرأي العام في المملكة التي ترتفع فيها أصوات الغضب، رغم محاولات القمع والسيطرة، وما حدث من قتل وسجن بلا محاكمات.
وتشير التوقعات إلى أن سهم شركة أرامكو، بعد اختفاء الطلب المصطنع، سيكون عرضة لمجموعة من المخاطر، شأن كل الأسهم المتاحة للتداول في العالم، إلا أنه من المؤكد أن طبيعة عمل الشركة، والمنطقة التي تتواجد بها، تفرض نوعية معينة من تلك المخاطر.
وإذا كان تذبذب أسعار النفط العالمية، نتيجة لتغير الطلب عليه وقت تباطؤ معدلات النمو، وتزايد توقعات الركود الاقتصادي، كما الحروب التجارية بين القوى العظمى في العالم، يمثل أكثر المخاطر وضوحاً، تأتي مغامرات بن سلمان السياسية في اليمن وسورية والعراق ولبنان ومصر وقطر لتوضح مدى التوتر الذي يمكن حدوثه في كل يوم من أيام التداول المعتاد بالسهم، بل وخلال توقفه أيام العطلات، وما حادث الطائرات المسيرة، التي ضربت الشركة منتصف شهر سبتمبر/أيلول الماضي وعطلت إنتاجها لمدة شهر، عنا ببعيد.
وبينما يدرك حاملو أسهم شركة أرامكو أن قراراً بالبيع يتم اتخاذه بحسن نية في أي لحظة، ربما يتسبب في مكالمة من أحد مساعدي بن سلمان، لا يمكن توقع نتائجها، تأتي حقيقة أن ثلثي ما تم طرحه للاكتتاب العام يتركز في أيدي المستثمرين المؤسسيين، الأمر الذي يبعث برسالة مفادها أن ولي العهد ربما لم يحسن تقدير العواقب، مرة أخرى.