سلاح المقاومة يغير موازين القوة
سطرت غزة بصمودها الأسطوري، أمام ثماني سنوات من الحصار البري والجوي والبحري، بطولات جسيمة، سوف يبقى التاريخ يتذكرها ويدونها للأجيال القادمة. غزة سجلت بمداد من دم فلسطيني ملحمة بطولية، باسم الأمة الإسلامية جمعاء، في وقت تخلى فيه كل حكام العرب والمسلمين عن قضية الأمة الأولى، وهي تحرير الأراضي الفلسطينية، وكنس الاحتلال الصهيوني من أرض الإسراء والمعراج.
تأتي معركة العصف المأكول، في ظرفية إسرائيلية داخلية حساسة، ومعطيات عربية وإقليمية شديدة التعقيد، نتيجة ارتدادات ما بعد الربيع العربي، وفي خضم تشكل خريطة شرق أوسط جديد، مازال عصياً على الولادة، لتكمل ما بدأته المقاومة الفلسطينية في معركتي الفرقان سنة 2008، وحجـارة السجيـل (حرب الأيـام الثمـانية) سنة 2012.
أظهرت المقاومة في العدوان الإسرائيلي والمستمر أنها تتطور بشكل كبير، ما فرض على الجيش الصهيوني أن يفكر في بناء قبة حديدية لاعتراض صواريخها، ومنذ 2007 إلى الآن لم تحقق هذه القبة النتائج المرجوة، وباعتراف محللين عسكريين إسرائيليين، لم تستطع سوى اعتراض 30% من الصواريخ في معركة حجارة السجيل.
ومع إصرار كل القادة العسكريين والسياسيين الصهاينة، على أن الهدف من العدوان الذي يخوضونه على غزة، هو تدمير منصات الصواريخ، والقضاء على المنظومة الصاروخية لحركة حماس، فإن حماس طورت إستراتيجيتها العسكرية منذ معركة 2012، وفتحت جبهات جديدة مع العدو، لم يكن يحسب لها حساباً، ما أظهر قوة المقاومة وإبداعها وعجز الصهاينة. جاءت معركة العصف المأكول باستراتيجيات عسكرية نوعية جديدة، إلى جانب منظومة الصواريخ التي تعززت بصواريخ نوعية، تصل إلى العمق الفلسطيني المحتل لأول مرة، فقد استطاعت المقاومة أن تقصف حيفا شمالاً وديمونة جنوباً، مروراً بتل أبيب وهرتسيليا والقدس، ما أربك حسابات الكيان الصهيوني، منذ الأيام الأولى للعدوان.
واستعملت كتائب القسام، ومعها باقي فصائل المقاومة في القصف، صواريخ نوعية، من قبيل صاروخ R160، وسمي بهذا الاسم تيمنًا بالدكتور الشهيد عبد العزيز الرنتيسي، والذي توعد في إحدى خطاباته بضرب حيفا، فأوفى القسام بالوعد، وصنع هذا الصاروخ الذي يصل مداه الى أكثر من 160 كلم وJ80، ويطلق عليه صاروخ الشهيد أحمد الجعبري، ويصل مداه إلى 80 كلم، وصاروخ سجيل S55، وهو مطور بأيدي مهندسي كتائب الشهيد عز الدين القسام، يتجاوز مداه 55 كلم، قصفت به كتائب القسام "رحوفوت" و"بات يام" أول مرة، كما قصفت بعدد آخر منها مدينة بئر السبع المحتلة، وصاروخ براق 70، فلسطيني الصنع، ويصل إلى 70 كلم، وصاروخ M302 الذي يصل مداه إلى 150 كلم، وصاروخ المحامدة M75، الصاروخ "اللغز"، وهو فلسطيني محلي الصنع، من إنتاج كتائب الشهيد عز الدين القسام، كشف عنه في معركة حجارة السجيل. وأطلق أول صاروخ منه في اتجاه تل أبيب وسط فلسطين المحتلة في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2012، ويصل مداه إلى أكثر من 75 كلم، وكان يوم السبت، 12 من يوليو/تموز 2014، مشهوداً في تاريخ العدوان الإسرائيلي، بحيث تحدت المقاومة القبة الحديدية، وأنذرت سكان تل أبيب أنها سوف تقصف المدينة بعد الساعة التاسعة ليلاً، وأثبتت عجز القبة عن اعتراض الصواريخ القسامية التي تهاطلت على تل أبيب، بعد ثوانٍ من المهلة المحددة، ما جعل الكيان الصهيوني يصدم من هول صواريخ المقاومة، وعدم قدرة منظومته على اعتراضها، على الرغم من معرفته المسبقة بساعة إطلاقها ومكان سقوطها.
إضافة إلى التطور النوعي في منظومة الصواريخ القسامية، بنت المقاومة منظومة من الأنفاق العسكرية، والتي أصبحت تسمح باختراق خطوط العدو، والتوغل خلف الجبهة، والانقضاض عليه في نقطة الصفر، ما سهل على المقاومة التسلل إلى عمق المدن المحتلة، ومباغتة الجيش الإسرائيلي واستهدافه من خلف صفوفه، ما شكل ضربة قوية للألوية النخبة في صفوف هذا الجيش.
وكانت أبرز عملية نوعية هي التي أعلن عنها القائد العام لكتائب القسام، محمد الضيف، والتي وقعت يوم 28 يوليو/ تموز، إثر عملية إنزال خلف خطوط العدو شرق الشجاعية، والهجوم على برج عسكري محصن لكتيبة ناحل عوز، وقتل 10 جنود إسرائيليين، ورجوع جنود القسام إلى غزة سالمين. ومن جهة أخرى، استطاعت المقاومة أن تعلن في هاته المعركة عن وحدة خاصة، سميت الضفادع البشرية، والتي نفذت عملية نوعية في اليوم الثاني من العدوان، واستهدفت قاعدة سلاح البحرية "زيكيم"، وخلفت قتلى وجرحى في صفوف العدو.
ولم تغفل المقاومة دور سلاح الجو الاستراتيجي في حسم المعارك، ودوره الفعال في الاستطلاع والتجسس والتصوير الجوي، فعملت، أول مرة، على تسيير طائرة أبابيل 1، بنماذجها الثلاثة (A1A الاستطلاعية، A1B الهجومية إلقاء، A1C الهجومية الانتحارية)، إستراتجيتان جديدتان، تضافان إلى سجل كتائب القسام، ستكونان، لا محالة، حاسمتين في معاركه مع الكيان الغاصب في المستقبل، وستدفعان كيد المحتل إلى الاندحار.
تطور المنظومة العسكرية النوعية للمقاومة، أصاب العدو الصهيوني بالجنون، لهول الخسائر التي تكبدها، وحجم القتلى والجرحى الذين سقطوا في صفوفه، بعد مرور ثلاثة أسابيع من العدوان، من دون تحقيق نقطة واحدة من بنك الأهداف التي أعلنت قيادة هذا الجيش عنها.
رسائل المقاومة خلال معركة العصف المأكول، والتي لم تضع أوزارها بعد، ليس المعني بها الكيان الغاصب وحده، بل كذلك حكام عرب تخلوا عن القضية الفلسطينية، وكل الحركات التغييرية أينما كانت، على أن حجم التضييق والاعتقال كيفما كان، لن يكون بالحجم الذي تعانيه المقاومة في غزة، وعلى الرغم من ذلك، استطاعت أن تنتج سلاحها، وتقاوم بكل ما أوتيت من قوة، فهل هناك حركة في العالم تعيش الحصار الذي تعيشه المقاومة في غزة؟
مدينة غزة، تلك المنطقة الجغرافية الصغيرة جداً على الخريطة، ويسكنها حوالي مليون ونصف مليون نسمة، محاصرة من كل الاتجاهات، من الكيان الصهيوني وأعوانه في المنطقة، وعلى الرغم من العدوان والقصف والاغتيالات، أبانت للعالم أجمع أنها قوية، بقضيتها وبمقاومتها وأبنائها الأحرار، الذين هزموا أعتى جيش في العالم، بصواريخهم المحلية الصنع، وبتكتيكاتهم الحربية التي سيكون لها شأن في المدارس العسكرية مستقبلاً، وبصمود شعبها الباسل الأبي الذي يؤدي ضريبة الجهاد عن الأمة.