18 سبتمبر 2024
سقطرى وخطورة التفاهة
من يدخل في نقاشات عامّة يمنيّة وعربيّة باستمرار، يصل غالبًا إلى تكوين صورة جيدة عن وسائل تحويل أي نقاش عقلاني إلى حربٍ كلامية وبذاءة، وفي مقدمتها جرّ المرءِ إلى نقاش التفاهات والأكاذيب ومماحكات الصغار، أي تحويل الهُراء ذاته إلى موضوع أخذ ورد. ولكن، هل يعني هذا أن التفاهات غير مهمة، وغير خطرة؟ مع الزمن، كوّنتُ ما يمكن تسميته "موقفًا من التفاهة" يشابه موقف المُحلل النفسي من الأحلام والهلوسات:
التناقش حول التفاهات نفسها، وعلى أرضيتها، في الفضاء العمومي، عبثي بالضرورة، وعلى المدى الطويل قد يسبب رضوضًا في أخلاق الإنسان وصحته النفسيّة، لكن دلالات التفاهات، وتحويل الأخيرة من موضوع إلى "حالة" تُدرَس أبعادها من على أرضيّة عقلانيّة هي التي تحتاج نشاطًا مجتهدًا، لأن بواعث، وغايات، و"سياق" الهُراء في الشأن العام خطيرة فعلًا.
تصدرت، في الأسبوع الماضي، أزمة جزيرة سقطرى الأخبار عن اليمن، حيث أرسلت الإمارات العربية طائرات عسكريّة تحمل جنودًا ومُعدّاتٍ عسكريّة إلى الجزيرة اليمنيّة الأكبر (والأجمل) ردا على زيارة رئيس الوزراء اليمني، أحمد بن دغر، لها، وسيطرت على منافذ الجزيرة وإداراتها، وسرّحت الموظفين اليمنيين.
انبجست من أرضيّة هذه الأزمة أحاديث وأمور كثيرة ذات دلالة. نبدأ أولًا بالنقاش "الجَدّي!" في وسائل التواصل الاجتماعي بشأن التوصيف الصحيح للوجود الإماراتي في اليمن: مساندة أم احتلال (على وزن ثورة أم انقلاب)، وهذا يعني:
على الرغم من وجود قوّات عسكريّة لدولةٍ في أراضي دولة أخرى، ولا تعترف بالنظام
الشرعي للأخيرة، وتبني سجونًا ومراكز لتعذيب المواطنين (موثقة في تقارير دولية ومحلية) وتشكل كيانات عسكرية وسياسية يمنيّة تابعة لها حصرًا، وتستخدمها لمحاربة النظام الشرعي، وتستولي على أراضٍ وجُزر ومطارات وموانئ، وتُسرح موظفين، وتمنع مسؤولين من السفر أو الدخول للبلد، على الرغم من هذا كله، ثمّة من يجادل في أن هذا ليس احتلالًا بعدُ، وخذ مثلًا على اللاعقلانيّة المُرّة والمضحكة في آن، الخطابَ الإعلامي للمجلس الانتقالي الجنوبي التابع للإمارات: من يتهم الإمارات باحتلال اليمن ويشكك في دورها هم عُملاء قطر!
دلالات هذا الخطاب كثيرة وعميقة، يهمنا منها أن المجتمع اليمني قد وصل إلى مراحل متقدّمة من الانهيار؛ فإذا كانت السيادة الوطنيّة، في أكثر أشكالها مرونةً وتواضعًا، محلّ أخذ ورد وشتائم، فهذه أوضح علامات تفكك المجتمع إلى هويّات، وفشل الدولة التاريخي في إنتاج هويّة وطنيّة.
الأمر الآخر هو سلوك الأحزاب اليمنيّة؛ فثمّة أحزابٌ صمتت طوال العام الماضي، ولا تزال، على الخطاب والسلوك الإماراتي المتغطرس وجرائم التعذيب والاعتقال، وفي مقدمتها التجمع اليمني للإصلاح (لم أقرأ بيانًا رسميًا من الحزب بخصوص أزمة سقطرى حتى كتابة هذه السطور)، والذي يفعل ذلك طمعًا في التفاهم مع الإمارات، ولو على حساب البلاد والعباد، في حين أن أعلى صوت حزبي سُمِعَ كان بيانًا خجولًا يبعث على الرثاء للتنظيم الناصري (المتفاهم مع الإمارات في تعز) يدعو إلى "توضيح الدور الإماراتي" في اليمن.
وهكذا، بين أحزاب صامتة طمعًا في نفوذ سياسي وإزالة الجفاء وأخرى تتحدث بخوفٍ عن نفوذها المتواضع ورفعًا للعتب، لا تصبح مهمة صياغة الموقف السياسي المُحدد من جرائم بحق المجتمع، وطرح خطط عمليّة متكاملة لمواجهة احتلال أراضٍ يمنيّة وتمزيق المجتمع اليمني وإهانة الحكومة المكونة من تلك الأحزاب ذاتها طوال شهور، وآخرها في سقطرى، من ضمن الوظائف التي تفكر فيها الأحزابُ اليمنيّة. وتبريرات الأخيرة هذا السلوك كثيرة ومن العبث نقاشها، ولكن من الاستنتاجات المهمة بخصوصها أن الشرعيّة الضمنيّة لوجود هذه الأحزاب وطنيًا قد انتهت، لأنها لا تضطلع بالحد الأدنى من واجباتها البديهية التي تترتب على وجود دولة ومجتمع. وعليه، تصبح هذه الأحزاب أشياء أخرى كثيرة (تجمعات نفوذ فاسدة، شركات مقاولة وسمسرة سياسية، نوادي للنقاش السياسي، لوبيات لدول أخرى في بلادها، منظمات محلية تراقب الأوضاع السياسية.. إلخ)، لكنها ليست أحزابًا.
ثم تأتي ثالثة الأثافي، وهي حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي، والتي عبّرت عدة مرات منذ يناير/ كانون الثاني الماضي، وآخرها بيانها بشأن أزمة سقطرى بخجلٍ عن مشكلتها مع
السياسات الإماراتيّة في اليمن في شكلٍ أقرب إلى الشكوى منه إلى الموقف، مع اتباع الخطوة نفسها في أزمات سابقة، وهي توجه الحكومة إلى العربيّة السعوديّة بالشكوى باعتبار الأخيرة وسيطا، وهذه تتبع الخطوة نفسها كذلك: إدارة الأضرار والوقوف عمليًا مع السياسات الإماراتيّة لأسبابها الخاصة.
فشلت حكومة هادي (وأُفشلت من السعودية والإمارات) في أن تترجم رمزيّتها إلى بيروقراطيّة قويّة، ومؤسسات تدير الأراضي اليمنيّة الخاضعة رسميًا تحت سلطتها، ولهذا الموضوع أسباب ومفاعيل كثيرة، لكن التطوّر المتراكم منذ العام الماضي، وصولًا إلى أزمة سقطرى بفعل السياسات الإماراتيّة، هو أن الثقل الرمزي للرئيس هادي في طريقه إلى الزوال، لأنه لا يبذل أي جهد في استغلال الخيارات والإمكانات التي يوفرها ذلك الثقل، تاركًا كل مقاليد الأمور، حتى الرمزي منها، منذ بداية الحرب في يد المملكة السعوديّة.
ختامًا، ثمّة يمنيون في وسائل التواصل الاجتماعي يتعاملون بجديّةٍ لفظيّةٍ مع تصريحات الوزير الإماراتي، أنور قرقاش، بشأن جزيرة سقطرى وتلميحاته بخصوصها، بل ويجتهدون لإثبات أن سقطرى تابعة لليمن وليس للإمارات! مع تفهم هذا الغضب الصادق، ليس هذا هو المطلوب باعتقادي؛ فالمفترض الآن أخذ السياسات الإماراتيّة، وما يقبع خلف تصريحات الوزير المذكور بجديّة عمليّة، أي بحث كل الخيارات القليلة المتاحة أمام ما تبقى من المجتمع اليمني ومنظماته للتصدّي لهذه السياسات التي تستهدف السيطرة على سقطرى والساحل اليمني عمومًا، في ظل فشل الحكومة، واستقالة الأحزاب من وظيفتها، وتشظي قطاعاتٍ من المجتمع، وليس الدخول في معارك تنفيسيّة عبثية لإثبات البديهي والمعروف.
التناقش حول التفاهات نفسها، وعلى أرضيتها، في الفضاء العمومي، عبثي بالضرورة، وعلى المدى الطويل قد يسبب رضوضًا في أخلاق الإنسان وصحته النفسيّة، لكن دلالات التفاهات، وتحويل الأخيرة من موضوع إلى "حالة" تُدرَس أبعادها من على أرضيّة عقلانيّة هي التي تحتاج نشاطًا مجتهدًا، لأن بواعث، وغايات، و"سياق" الهُراء في الشأن العام خطيرة فعلًا.
تصدرت، في الأسبوع الماضي، أزمة جزيرة سقطرى الأخبار عن اليمن، حيث أرسلت الإمارات العربية طائرات عسكريّة تحمل جنودًا ومُعدّاتٍ عسكريّة إلى الجزيرة اليمنيّة الأكبر (والأجمل) ردا على زيارة رئيس الوزراء اليمني، أحمد بن دغر، لها، وسيطرت على منافذ الجزيرة وإداراتها، وسرّحت الموظفين اليمنيين.
انبجست من أرضيّة هذه الأزمة أحاديث وأمور كثيرة ذات دلالة. نبدأ أولًا بالنقاش "الجَدّي!" في وسائل التواصل الاجتماعي بشأن التوصيف الصحيح للوجود الإماراتي في اليمن: مساندة أم احتلال (على وزن ثورة أم انقلاب)، وهذا يعني:
على الرغم من وجود قوّات عسكريّة لدولةٍ في أراضي دولة أخرى، ولا تعترف بالنظام
دلالات هذا الخطاب كثيرة وعميقة، يهمنا منها أن المجتمع اليمني قد وصل إلى مراحل متقدّمة من الانهيار؛ فإذا كانت السيادة الوطنيّة، في أكثر أشكالها مرونةً وتواضعًا، محلّ أخذ ورد وشتائم، فهذه أوضح علامات تفكك المجتمع إلى هويّات، وفشل الدولة التاريخي في إنتاج هويّة وطنيّة.
الأمر الآخر هو سلوك الأحزاب اليمنيّة؛ فثمّة أحزابٌ صمتت طوال العام الماضي، ولا تزال، على الخطاب والسلوك الإماراتي المتغطرس وجرائم التعذيب والاعتقال، وفي مقدمتها التجمع اليمني للإصلاح (لم أقرأ بيانًا رسميًا من الحزب بخصوص أزمة سقطرى حتى كتابة هذه السطور)، والذي يفعل ذلك طمعًا في التفاهم مع الإمارات، ولو على حساب البلاد والعباد، في حين أن أعلى صوت حزبي سُمِعَ كان بيانًا خجولًا يبعث على الرثاء للتنظيم الناصري (المتفاهم مع الإمارات في تعز) يدعو إلى "توضيح الدور الإماراتي" في اليمن.
وهكذا، بين أحزاب صامتة طمعًا في نفوذ سياسي وإزالة الجفاء وأخرى تتحدث بخوفٍ عن نفوذها المتواضع ورفعًا للعتب، لا تصبح مهمة صياغة الموقف السياسي المُحدد من جرائم بحق المجتمع، وطرح خطط عمليّة متكاملة لمواجهة احتلال أراضٍ يمنيّة وتمزيق المجتمع اليمني وإهانة الحكومة المكونة من تلك الأحزاب ذاتها طوال شهور، وآخرها في سقطرى، من ضمن الوظائف التي تفكر فيها الأحزابُ اليمنيّة. وتبريرات الأخيرة هذا السلوك كثيرة ومن العبث نقاشها، ولكن من الاستنتاجات المهمة بخصوصها أن الشرعيّة الضمنيّة لوجود هذه الأحزاب وطنيًا قد انتهت، لأنها لا تضطلع بالحد الأدنى من واجباتها البديهية التي تترتب على وجود دولة ومجتمع. وعليه، تصبح هذه الأحزاب أشياء أخرى كثيرة (تجمعات نفوذ فاسدة، شركات مقاولة وسمسرة سياسية، نوادي للنقاش السياسي، لوبيات لدول أخرى في بلادها، منظمات محلية تراقب الأوضاع السياسية.. إلخ)، لكنها ليست أحزابًا.
ثم تأتي ثالثة الأثافي، وهي حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي، والتي عبّرت عدة مرات منذ يناير/ كانون الثاني الماضي، وآخرها بيانها بشأن أزمة سقطرى بخجلٍ عن مشكلتها مع
فشلت حكومة هادي (وأُفشلت من السعودية والإمارات) في أن تترجم رمزيّتها إلى بيروقراطيّة قويّة، ومؤسسات تدير الأراضي اليمنيّة الخاضعة رسميًا تحت سلطتها، ولهذا الموضوع أسباب ومفاعيل كثيرة، لكن التطوّر المتراكم منذ العام الماضي، وصولًا إلى أزمة سقطرى بفعل السياسات الإماراتيّة، هو أن الثقل الرمزي للرئيس هادي في طريقه إلى الزوال، لأنه لا يبذل أي جهد في استغلال الخيارات والإمكانات التي يوفرها ذلك الثقل، تاركًا كل مقاليد الأمور، حتى الرمزي منها، منذ بداية الحرب في يد المملكة السعوديّة.
ختامًا، ثمّة يمنيون في وسائل التواصل الاجتماعي يتعاملون بجديّةٍ لفظيّةٍ مع تصريحات الوزير الإماراتي، أنور قرقاش، بشأن جزيرة سقطرى وتلميحاته بخصوصها، بل ويجتهدون لإثبات أن سقطرى تابعة لليمن وليس للإمارات! مع تفهم هذا الغضب الصادق، ليس هذا هو المطلوب باعتقادي؛ فالمفترض الآن أخذ السياسات الإماراتيّة، وما يقبع خلف تصريحات الوزير المذكور بجديّة عمليّة، أي بحث كل الخيارات القليلة المتاحة أمام ما تبقى من المجتمع اليمني ومنظماته للتصدّي لهذه السياسات التي تستهدف السيطرة على سقطرى والساحل اليمني عمومًا، في ظل فشل الحكومة، واستقالة الأحزاب من وظيفتها، وتشظي قطاعاتٍ من المجتمع، وليس الدخول في معارك تنفيسيّة عبثية لإثبات البديهي والمعروف.