سرديّات سورية توقظ أسئلة الموت والعزلة

12 يناير 2015
+ الخط -
ثمانية رجال وثماني نساء، يهجرون مناطقهم المختلفة من سورية، إلى أرضٍ جديدةٍ نائيةٍ قرب عين ماء، مرتبطة بحادثة ذات بعد أسطوري. في الأرض الجديدة يكون للمنفى طعمٌ آخر، حيث الخلاص والملجأ واحتساء الذكريات ومقاربة الحنين، وطهرانية المكان الجاذب الذي دفعتهم إليه أسباب مختلفة. لكنهم يُفاجؤون بأن القرية الصغيرة انعزلت عمّا حولها بسبب غمر البحر للمنطقة الواصلة بينها وبين البرّ حيث سوريّة. فيصبحون كأنهم في سفينة تائهة في عرض البحر، لا يدرون أهي سفينة النجاة من الطوفان؛ أمّ السفينة التي يغرق فيها السوريون كما هو الحال في الواقع؟ هذا هو السؤال الرئيس في رواية السوري لؤي علي خليل "هسيس الملائكة" (الدار العربية للعلوم- ناشرون). 
ثمانية أزواج، يُضاف إليهم شيخ مبروك وفتاة خاطئة، يكملان نقاط قوسٍ مديدٍ، تنوس بين طرفيه قيم المجتمع السوري وتمظهراتها في نصف القرن الأخير. وتجتمع في وعي المتلقي عبر سرديات قصيرة بين معظم شخصيات الرواية الذين يعيشون سؤال العزلة وهواجسها وارتباكاتها، في سرديّة تتجاور فيها أصوات مختزلة لأطياف المجتمع السوري، وتشتبك مع سرديّة الملائكة الموكلين بالبشر. 
يحاول لؤي علي خليل من خلال فانتازيا خفيفة العيار، التعبير عن واقع المجتمع السوري قبل الثورة، من منظور حداثي بعيدًا من الأدلجة الصارمة، ماضيًا في زعزعة بنية المحظور السياسي، في فكرة مطروقة سابقًا فلسفيًا وروائيًا: الأرض الجديدة ومفارقة القديم. 
لا نعثر في الرواية، على حيّ بن يقظان ولا روبنسون كروزو. ولا "ماكوندو" ماركيز ولا سفينة الطوفان، فالعمل يغصّ بذكريات مليئة بالتفاصيل، تقدّم شهادات شخصيات تحمل مظلوميتها الاجتماعية والسياسية وتعاني بسبب طائفتها، أو أفكارها، أو سلوكها المختلف، وعليها مواجهة الطارئ الجديد. 
الشيخ الهارب من حلب احتجاجاً على حدّية مجتمعها الذي لا يقبل اجتماع أكثر من لون في شخصية واحدة، وابن المجاهد ضد الفرنسيين الهارب من مجتمعٍ مفارق لطائفته بعد قتل ابنه في إحدى المظاهرات في الثمانينيات، وابن المحارب ضد الصهاينة الهارب من وصية والده في التطوّع في الجيش بعد اقتصار الجيش على طائفة بعينها، والرجل المبتلى بشاب ثرثار في مجتمع لا يحتمل النقد، وأستاذ الفلسفة الذي أخذته اللذة إلى الفلسفة، ثم إلى فلسفة اللذة، والخيارات الضيقة التي حاصرته جرّاء هوسه بالجنس. 
وعلى طيف واسع من قمّة الإيمان إلى الإلحاد، تبدو حياة قرية عين جوريّة الصغيرة بؤرة صغيرة تتجمّع فيها حياة سورية الحديثة وهي تتعثّر بعقبات التحوّل الشديدة، حيث الفساد السياسي والفكري والثقافي. الفساد الذي يجعل الشخصيات شريحة منبوذين منفيين ومهمشين في المجتمع السوري قبل الثورة. 
يُخضع الروائي لؤي علي خليل أبطاله لسؤال الرواية عن أثر المكان في سلوك الناس، باعتبار أن عين جوريّة التي انفصلت عن سوريّة هي الأرض الجديدة، السؤال الذي يجد إجاباته مبكرة في سلوك شيخ الجامع وهو يرتدي ثياباً رياضية، أو في تقبّل الفتيات لدارين الفتاة المسيحية التي يستبد بها الخجل عندما يكتشفها سكّان عي جوريّة. 
تقترب "هسيس الملائكة" من رواية تعدد الأصوات، وهي تسجّل تجاذب السرد بين الراوي وأبطاله، على حين تحضر الثورة السورية في وعي المتلقّي وهو يعايش أبطال العمل وقد اتفقوا برغم كل اختلافاتهم على دعاء واحد في التوقيت ذاته، أن يجري حدث عظيم يغسل آثار الماضي في حيواتهم المتعثرة. فالحراك السوري وأيقونة الدعاء الشهيرة "يا الله ما لنا غيرك يا الله"، إحدى علامات النص السوري الذاهب إلى احتمالات مقلقة. وكأن لؤي خليل يستحضر شخوص "جريمة في قطار الشرق السريع" الذي يكتشف المحقق أنهم يمتلكون أسباباً مختلفة للقتل. 
الجزيرة الصغيرة التي تؤسس لحياة جديدة بقوانين جديدة، بإحساس أبطالها بالمسؤولية وبأخطائهم وخطاياهم وبؤسهم وهزائمهم وتطلعاتهم، يمضون في صناعة وجودهم في المكان، ولكن الراوي يتركنا هناك وهم يعانون تعرض النبع الأسطوري للنفاد، مرتبطاً بإشراف طه الوادي على الموت، آخر سلالة الوادي الذي أنقذته الجنيّة باكتشاف النبع يوم تعرض لحصار الفرنسيين، وفي هذا إشارة إلى نبع الأمل الحقيقي المرتبط بطهرانية البدايات في الثورة السورية. 
يترك لؤي خليل الجزيرة مشرفة على الهلاك، في انتظار أن يعود إليها بعد حين، وقد تفجّرت الينابيع في أرض الواقع اليباب. 
المساهمون