سرديات هاني زعرب: أزمنة "حب بجودة منخفضة"

29 نوفمبر 2015
"عذراً بيتر دويغ، هذا قاربٌ بحري"
+ الخط -

"هذه اللوحة قادرة على أن تفقدك إيمانك"، يقول ديستويفسكي، على لسان مشكين في روايته "الأبله"، واصفاً لوحة "جسد المسيح الميت في القبر" لـ هانس هولباين الصغير. لوحةٌ أحدثت ثورة في مفهوم صورة جسد المسيح المقدسة؛ حيث لم يختَر الفنان رسم صورة إلهية "جميلة"، بل رسم جسداً بشرياً؛ جثّةً حقيقية صادمة وفجّة.

في لوحته "لترقد بسلام ثانيةً أيّها المسيح"، يستعيد التشكيلي الفلسطيني هاني زعرب (1976)، على طريقته، جسد المسيح الميت من لوحة هولباين الصغير. فجاجة الصورة هي ما جذبت زعرب الذي يبحث في معرضه المقام حالياً في "غاليري بيرلوني" في لندن، عن معنى الحب وقيمته الحقيقية، في عصر تهيمن عليه النرجسية الرقمية والترويج المفرط للذات، من دون تزيين أو تجميل زائف.

"حب بجودة منخفضة"، هو العنوان الذي اختاره زعرب لمعرضه، كما اختار أيضاً القلب بشكله التشريحي المفصّل ليكون العنصر الرئيس في هذه المجموعة التي تضم ستة أعمال أغلبها من القطع الكبير. رسم القلب يأتي هنا كنوع من تكريم رمزي يمنحه الفنان لهذا العضو، كما أن رسمه مقتطعاً وواقعياً، حيث تظهر الأوردة والشرايين، يفكّ ارتباطه مع صورتنا النمطية عن القلب، وبالتالي الحب.

كما في العمل الذي يحمل عنوان "عذراً بيتر دويغ، هذا قاربٌ بحري"، يضع زعرب قلباً كبيراً في قارب ويجعله يبحر في فضاء مجهول وبارد. يستعير الفنان عنصر القارب في هذا العمل من لوحة الفنان الإسكتلندي بيتر دويغ. يأتي القارب هنا بمثابة محاكاة لتراجيديا الهجرة عبر البحر، وحالة اللجوء والاغتراب. هو ليس مجرد تعاطف عابر، فالفنان يعيش كلاجئ في فرنسا منذ عام 2006؛ حيث قدم إليها من أجل إقامة فنية في المرسم الفلسطيني في المدينة العالمية للفنون ولم يعد بإمكانه العودة إلى فلسطين، بسبب رفض سلطة الاحتلال؛ كونه من مواليد مخيم رفح في غزّة.

وإذا كان زعرب قد رسم الطيارة سابقاً في مجموعة "درس في الطيران" عام 2009 كتعبير عن علاقته مع المنفى وتعويضاً رمزياً عن عدم قدرته العودة إلى وطنه الأم، فإنه اليوم يرسم القارب ليُظهر، ربما، عجزه وعجزنا أمام فجاعة تراجيديا الهجرة عبر البحر. في اللوحة التي تحمل عنوان "اطبع أيّ اسم"، وهي الأكبر ضمن المجموعة (492 × 192 سم)، نرى قلبين كبيرين يتموضعان، بشكلٍ متناظر، على طرفي اللوحة. أحدهما يبرز بشكل واضح يظهر في أسفله مستطيل الوسم (TAG) على فيسبوك، كتب عليه بالإنجليزية، كما عنوان اللوحة؛ Type any name.
لترقد بسلام ثانيةً أيّها المسيح

تظهر هذه العبارة على فيسبوك حين تكون هناك صورة لشخص ما في حساب المُستخدِم؛ إذ يقترح الموقع، حين يُوضع المؤشّر على الوجه الذي في الصورة، أن نطبع اسماً ما، أيّ اسم؛ كأنّ صاحب الوجه الحقيقي يمكن أن يكون أي أحد. هكذا، يفقد الإنسان، من خلال هذا "الإفراط الرقمي"، هويته وملامحه، ويتحوّل بكل بساطة إلى "أيّ اسم". استبدل زعرب الوجه بالقلب، وكأنّه يتساءل: هل هذا القلب يُمكن أن يكون قلب أي شخص ما؟

أما القلب الآخر فيتماهى، بشكل جزئي، مع الخلفية التي انقسمت بدورها إلى ثلاثة أقسام؛ لتبدو وكأنها، من حيث الشكل، ثلاثية: جزءان متوازيان على طرفي اللوحة تحدّدهما خطوط رمادية عمودية أشبه بقضبان السجن الحديدية، أما الجزء المركزي الذي تغلب عليه الألوان القاتمة، فيبرز فيه، في المنتصف، خيال قلب ثالث، وكأن الفنان تردّد في رسمه.

في هذ العمل، يمزج زعرب ما بين التجريدي، كما يبدو في الخلفية، والتشخيصي من حيث الرسم التفصيلي للقلب، كما يضفي بعداً مفاهمياً على اللوحة من خلال إضافة عنصر هندسي، وهو مستطيل الوسم على فيسبوك.

في مجموعة "حب بجودة منخفضة"، التي يستمر عرضها حتى التاسع عشر من شهر كانون الأول/ ديسمبر المقبل في "غاليري بيرلوني" اللندنية، يحاول زعرب، على المستوى التقني، استعادة تأثيرات من تجارب سابقة له، كمجموعة "مخرج" المنفذّة عام 2006، كما أنّه يستحضر عناصر، كعمود الإنارة الذي يحمل كاميرات المراقبة، من أعمال قديمة، مثل سلسلة "الأخ الأكبر يشاهدك"، التي بدأ بتنفيذها العام الماضي.

وبغض النظر عن الشكل الفني والتقني الغني والجديد في أعمال هاني زعرب، فإن الشق المفاهيمي في لوحاته يدعو إلى اكتشاف الرسائل المخفية في مضمون تلك السرديات الخاصة، التي يمتزج فيها تاريخ الفنان الشخصي مع حالة الاغتراب بمفهومها الإنساني العام. لوحات زعرب قادرة على أن تجعلنا نبحث عن قيمة أعلى للحب في هذا الزمن الرديء.


اقرأ أيضاً: أحمد نعواش من عين كارم إلى الطفولة الخالدة

دلالات
المساهمون