سحر التصوير

25 اغسطس 2015
الفنان المغربي محمد السالمي - فنون دوت كوم.
+ الخط -
في بداية الألفية هذه، وصلني يوماً فاكس غريب يكاد يكون مجهول المصدر يدعوني فيه "أصحابه" إلى المشاركة في تظاهرة عربية و"إسلامية" احتفاء بتحرير جنوب لبنان. وطبعاً يدعوني الفاكس بنبرة محايدة إلى اقتراح أسماء فنانين عرب للمساهمة في هذه التظاهرة التي كانت ستتم في معتقل الخيام على بعد ما لا يزيد عن مائة متر من المنطقة العازلة بين جنوب لبنان وشمال فلسطين، غير بعيد عن نهر الوزاني المحاذي للحدود، وعن مزارع شبعا.
كان أغلب المشاركين من لبنان، وكنت الناقد العربي الوحيد المشارك في التظاهرة، بحيث أحسست من البداية أن مهمتي كانت مواكبة هذه التجربة الاحتفائية التي منحت الفنّ فرصة بل فضاء التعبير المشترك، وإن الغامض والملتبس، عن إحدى إشكاليات تصوّر الفن في علاقته بالسياسة والأثر السياسي والتاريخ والذاكرة السياسية.
وأنا أستعيد هذه الذكرى اليوم، وأستحضر هذا الاحتفاء بكافّة مغامراته وأحداثه وما خلقه من دينامية تجاوزت مقاصده الضيقة، أستعيد معها السؤال: كم يكفينا من الوقت كي نقرّ بأن العلاقة بين التديّن والتصوير، أو بلغة أقلّ اعتبارية، بين الفن والدين هي علاقة استكشافية لا علاقة إنكارية، وهي علاقة تحريرية لا علاقة استعراضية.
وبما أن همّنا هنا ليس طرق الموضوع هذا بشكل مباشر، فسنكتفي منه بما يسمح لنا باستجلاء مفارقات الفن العربي في علاقته بالصيرورات الحالية ورهاناتها المستعجلة أو المرتقبة. إنها مفارقات نجازف هنا بطرح بعض ملامحها علَّنا بذلك نضع اليد على مفارِقها.
لا نزال نتذكر كيف كان التجريد في الخمسينيات الموضوع الأثير، الضمني ثم العلني، للحداثة في الفن العربي. وبعده صار الخط في طابعه التشخيصي ثم التجريدي مهمازاً للبحث عن هوية الفن العربي. لقد قضى الفن العربي أكثر من نصف قرن كي يستكشف محاسن تدمير المحاكاة والمرجعية الواقعية، مع مجموعة الفن والحرية، ثم مع الحركة التجريدية التعبيرية التي يمثل لها العديد، ومن بينهم محمّد خدة الجزائري وشاكر حسن العراقي والجيلالي الغرباوي المغربي.
كانت التجريدية أفقاً لمعانقة رحابة التشكيل والمتخيل التعبيري التصويري، وتحرراً من سلطة المرجعية الواقعية بجميع أشكالها، حتى الرمزية منها. وكانت هذه "القطيعة" الحداثية تريد لنفسها أن تحقق بشكل "تاريخي" العديد من الأفعال الحاسمة: منها تدعيم الطابع الشعري للتجربة التشكيلية ومن ثم طابعها المثقفي والثقافي كمجموعة الفن والحرية، وهو ما تجلى بالأخص في اعتماد التداعيات والتفاعلات الشكلية والتأثيرية المتباينة ظاهراً. ومنها التحرر من سلطة التشخيص بما تضمنه من محاكاة للعالم ومن تقييد وتشبيه يجعل المرجع أغنى من التعبير، ويحوّل الإبداع التشكيلي إلى عبد تستغلّه السلطة السياسية في دعايتها الإيديولوجية المفضوحة المقاصد. كما منها أيضاً الإغراق في التجريب بحثاً عن جوهر العمل الفني باعتباره مادة بحّاثة عن النور، نور العالم ونور الحقيقة.

اقرأ أيضاً: من الفتنة إلى القتل، الصورة والآخر

بيد أن أهمّ توجيه طبع هذه الاختيارات الحاسمة في تلك المرحلة، التي لا نزال نعيش امتداداتها، كان في مضمره ومعلنه ذا طبيعة مزدوجة: أعني الانخراط في حركية البحث الفني والجمالي العالمي التي انطلقت منذ بدايات القرن الماضي في تدمير أحادية المرجعية التشخيصية والتشبيهية، من ناحية. ومن ناحية ثانية استعادة المخزون التجريدي العربي الإسلامي المعتمد على تفكيك الأشكال وتوريقها وتشبيكها، سواء بشكل هندسي خالص أم بشكل تنميقي زخرفي يملك هذا القدر أو ذاك من الحرية التعبيرية.
ومع ذلك، ظلّ التشخيص يسكن التجربة التشكيلية العربية، مثل ظلّها الهارب. وكأن هذه الثنائية: تجريد / تشخيص، تعلن عن إفلاسها منذ البداية؛ فثمة حكي وتشخيص لدى شفيق عبود كما لدى محمد خدة، كما لدى الجيلالي الغرباوي، يثوي وراء العنفوان التعبيري الصارخ بالانطلاق.
لنقلْ إن التشخيص التشكيلي حين يخضع للمنزع الاستعمالي instrumentalism يغدو شعارية جوفاء، وحين يخضع للدعائية يغدو رسماً توضيحياً illustration، وحين يخضع للتحريم يغدو الجسد الغائب الذي يتحكم في لاوعي الغياب.
من ثم، لنقلْ إن للفن، من تشكيل وسينما ورقص وموسيقى، اليوم دوراً أكبر بكثير مما مضى لاستعادة الانسان المصوَّر باعتباره كائناً متسامياً عن الآدمية العمياء التي صرنا نغوص فيها في العقود الأخيرة. بل لنعلنْ أن استعادة التشخيص بجميع تلاوينه صار بشكل ما رهاناً فنياً وجمالياً له بعد سياسي وحضاري. يتجلى هذا البعد في ردّ الاعتبار للواقع ولطابعه المزدوج، إن لم نقل لطابعه المتعدد. فالواقع / الحاضر، ليس تابعاً للمستقبل أكان ميتافيزيقياً أم دينياً أم أخروياً. إنه الصلب المتحرك لذاك المستقبل. كما يتجلى أيضاً في "رد الاعتبار" للجسد وللمرئي ولغير المرئي بعدُ، باعتباره سنداً للا مرئي. صحيح أننا عابرون بأجسادنا لهذا العالم، غير أن هذا العبور يغيّر العالم ويمنحه صوراً جديدة، لا في مخيلتنا فحسب، ولكن أيضاً في كيانه هو. إنها الآثار التي يتركها عبورنا، التي يعتبر الفن أحد ركائزها "الخالدة".
بهذا المعنى، وبغيره، يغدو الفن، والفن المشخص التجسيمي منه بالأخص، اليوم رهاناً ذا طابع سياسي وحضاري ومستقبلي. فتشجيع تدريس الفنون وممارستها، وتشجيع الرسم في المدارس، والجداريات في المدن الصغرى والكبرى، ومنْح المعمار الفني مكاناً في المدينة، لهي أمور تقوّض من عَمى البصر والبصيرة التي تحاصرنا كالأخطبوط. كما أن تحرير الفن من السياسة الدَّعَوية، يعني من جانب آخر تحويله إلى وساطة تاريخية فعالة في تحرير الأذهان من نكران الصور، ومن ثم من إعدام الفن. فالفن ضامن للرؤية البعيدة المدى، والصورة ذاكرة المستقبل وأفقه، والتصوير سحر الحياة الدائم.
المساهمون