تتفاعل قضية الحكم الذي أصدرته محكمة جزائرية بالسجن ثلاث سنوات نافذة على الصحافي خالد درارني، بإدانته بتهمتي "التحريض على التجمهر والمساس بالوحدة الوطنية"، وتلقى إدانات متعددة. وإضافةً إلى التفاعلات المحلية، أخذت قضيته حيزاً لافتاً من الاهتمام الدولي، في أبعادها السياسية المتعلقة بالحريات وحرية التعبير والصحافة. "الصدمة" كان العنوان الذي اختارته صحيفة "ليبرتي" (الحرية) الصادرة في الجزائر، كعنوان رئيسي لصدر صفحتها الأولى بحجم كبير، لخّص إلى حد بعيد موقف الصحافيين والمهنيين من هذا الحكم القاسي، والذي دفع إلى إطلاق عريضة وطنية للمطالبة بإطلاق سراح الصحافي خالد درارني، جاء فيها أن خالد "تهمته الوحيدة ممارسة عمله باحترافية كصحافي، حيث لم يخالف يوماً القوانين والقواعد العامة لأخلاقيات المهنة منذ بداية تغطيته للمسيرات الشعبية لحراك 22 فبراير/شباط 2019".
وإلى جانب درارني، حوكم بالتهم نفسها كل من سمير بلعربي وسليمان حميطوش، لكنهما استفادا من إفراج موقت في 2 تموز/يوليو. وحُكم عليهما بالسجن عامين بينهما أربعة أشهر مع النفاذ، وبما أنهما سبق أن قضيا مدة العقوبة في الحبس الموقت فلن يعودا إلى السجن. واستغربت العريضة "النطق بأحكام مخففة أخرى على ناشطين آخرين مدتها أقل من مدة السجن الاحتياطي مع توفر نفس الوقائع والتهم ونفس الملف"، معتبرةً أن "هذا يؤكد ازدواجية التعاطي مع الأحكام القضائية وتكييف قضية خالد درارني بطريقة مختلفة، في سياق من التحامل واللامعقول في ملفه"، بسبب "توجيهات رئاسية وإيعازات واضحة من قبل السلطة السياسية نتج عنها حكم بالسجن يعتبر الأثقل والأطول منذ الاستقلال في حق صحافي جزائري يمارس مهنته بطريقة عادية". وأكدت اللائحة التي وقعها المئات من الصحافيين والناشطين أن "مكان خالد درارني اليوم ليس السجن، ولذلك نطالب بضرورة إطلاق سراح الصحافي خالد درارني فورا".
واعتقل درارني الذي كان يقدم نشرة الأخبار وبرامج في عدد من القنوات الجزائرية آخرها قناة "الشروق"، عندما كان يغطي مسيرة للحراك الشعبي في السابع من مارس/آذار الماضي، ويقبع في السجن منذ تلك الفترة. وقرر الصحافيون في الجزائر كسر الحصار وإنهاء قرار تعليق التظاهر، وأعلنوا عن خطوة جريئة تتعلق بتنظيم تجمع اليوم الخميس في ساحة حرية الصحافة في قلب العاصمة الجزائرية، للتنديد بالحكم الصادر وكذا بالتضييق المستمر على الصحافة والصحافيين في الجزائر، خاصة في الفترة الأخيرة التي تصاعدت فيها التوترات بين السلطة والصحافيين عبر قرارات حجب مواقع وملاحقات قضائية.
وخالد درارني (40 سنة) هو مدير موقع "قصبة تريبون" ومراسل قناة "تي في 5 موند" الفرنسية ومنظمة "مراسلون بلا حدود" في الجزائر. كما أنه الصحافي الذي تمكن من انتزاع الاعتراف الشهير من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في حوار صحافي خلال زيارته إلى الجزائر عام 2017، بجرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر. وبات درارني رمزاً للنضال لحرية الصحافة بعد اعتقاله.
ولدى محاكمته من سجنه في القليعة غرب العاصمة، بتقنية التواصل عبر الفيديو مع محكمة سيدي امحمد بوسط الجزائر العاصمة، بدا درارني هزيلا ورفض كل التهم الموجهة إليه مؤكدا أنه "قام فقط بعمله كصحافي مستقل" ومارس "حقه في الإعلام". وقال عضو هيئة الدفاع عن الصحافي درارني، عبد الغني بادي، لـ"العربي الجديد" إنّ "الحكم الصادر على خالد يعني بوضوح وجود ازدواجية السلطة والأمن في التحكم في القضاء، ذلك أن إدانة خالد لم تصدر من المحكمة في 11 أغسطس/آب، ولكنها صدرت في الخامس من مايو/أيار الماضي عندما وجه الرئيس عبد المجيد تبون اتهامات إلى الصحافي درارني". وأضاف بادي: "المحكمة أسست الملف القضائي فارغاً تماماً من أية دلائل أو وقائع يمكن أن تثبت التهم الموجهة إلى خالد"، مشيراً إلى أنّ "التهم أسست بناءً على نشر الصحافي خالد درارني لفيديوهات أو كلمات على صفحته لمظاهرات الحراك تتضمن هتافات ضد الرئيس والمسؤولين، واحتكمت القاضية إلى المادة 100 من قانون العقوبات، واستندت إلى المادة 79 من قانون العقوبات في تهمة المساس بالوحدة الوطنية، بسبب مداخلاته في قنوات فرنسية، كأي متدخل أو محلل".
ودفعت قضية خالد درارني، وقبله عدد من القضايا المرتبطة بحرية الصحافة في البلاد، الكثير من وسائل الإعلام الدولية المؤثرة في العالم إلى تسليط الضوء على حرية الصحافة في الجزائر، تحديداً ما بعد الحراك الشعبي الذي حمل تطلعات كبيرة بإمكانية تحقيق الجزائر لنقلة نوعية في مجال حرية الصحافة. لكن التطورات اللاحقة كانت مخيبة كثيراً في هذا السياق، ولم تعطِ السلطة السياسية الجديدة أية مؤشرات جدية على إمكانية ذلك. وعلّقت صحيفة "نيويورك تايمز" على قضية درارني، معتبرةً أنه "سجن ولم يُدن بأي شيء سوى القيام بعمله"، وأنّ ذلك مؤشر على عدم وجود تغير جدي في النظام الجزائري في علاقته بحرية الصحافة والإصلاح.
ووصفت منظمة "مراسلون بلا حدود" التي يمثلها درارني في الجزائر، الحكم بأنه "اضطهاد قضائي". وانتقد الأمين العام لمنظمة "مراسلون بلا حدود" كريستوف ديلوار الحكم الصادر بحق درارني على "تويتر"، قائلاً إنّه "اضطهاد قضائي واضح"، مضيفاً أن قرار المحكمة الممتثل "للأوامر" إنما "يفطر القلوب والعقول جراء طبيعته التعسفية والعبثية والعنيفة".
ولدى سؤاله، أعاد وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان التذكير بأن "فرنسا جدّدت التزامها بحرية الصحافة وبأمن الصحافيين وكل من تسهم حرية تعبيره في النقاش العام في أي مكان من العالم".
وقبل أسبوع، كانت مجموعة من الصحافيين في العالم قد طالبت بالإفراج عن خالد درارني، ووصفت محاكمته بأنها محاكمة للصحافة. وطالبت منظمات مهنية وصحافية محلية ودولية بالإفراج عن درارني، بينها العفو الدولية و"مراسلون بلا حدود" والاتحاد الدولي للصحافيين. ودعت "لجنة حماية الصحافيين" ومقرها نيويورك "السلطات الجزائرية إلى إطلاق سراح خالد درارني فورا، خاصة أنه لا يوجد أي دليل على أنه فعل شيئا آخر غير عمله كصحافي" كما جاء في بيان سابق.
وقبل فترة، اعتقلت السلطات المراسل السابق لقناة "فرانس 24"، وأفرج عنه في اليوم التالي بضغوط شديدة. وتم وضع ثلاثة صحافيين من جريدة "الصوت الآخر" تحت الرقابة القضائية بسبب تقرير عن إدارة السلطات الصحية للأزمة الوبائية. وفي السجن منذ 24 حزيران/يونيو الصحافي عبد الكريم زغيلاش مدير إذاعة "ساربكان" التي تبث عبر الإنترنت من قسنطينة بشرق البلاد. وفي 14 تموز/يوليو، حُكم بالسجن 15 شهراً على مراسل قناة النهار من معسكر (شمال غرب الجزائر) بتهمة "إهانة هيئة نظامية" عبر منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي. ويقضي الصحافي بلقاسم جير عقوبة السجن ثلاثة أعوام بتهم انتحال صفة والابتزاز، كما جاء في الحكم الصادر بحقه في 28 حزيران/يونيو.
ونالت المواقع الإلكترونية نصيبها من الملاحقة، حيث قامت السلطات بحجب عدد من المواقع الإخبارية كموقع " لوماتان"(الصباح)، وموقع "كل شيء عن الجزائر"، و"مغرب ايميرجون" و"راديو أم"، كما قامت لاحقا بحجب موقع" أنتر لين" (ما بين السطور). وتحتل الجزائر المركز 146 (ضمن 180 دولة) في مجال حرية الصحافة بحسب تصنيف منظمة "مراسلون بلا حدود" بعدما حلت في المرتبة 141 في 2019 والمرتبة 119 في 2015. ويعطي هذا فكرة عن حجم الضغوط التي وضعت السلطة نفسها فيها، إزاء هذا الاستنطاق الدولي، خصوصاً أنّ البلد يمر بفترة عصيبة على أكثر من صعيد اجتماعي واقتصادي وغموض في التوجهات والخيارات السياسية.
ويوجّه استمرار قضايا حرية الصحافة في مستوياتها القاعدية، رسالة سلبية من السلطة الجزائرية إلى الداخل والخارج، بشأن استمرار نفس المقاربة السياسية في التعاطي مع هذا الملف ومجمل ملف الحريات الإعلامية والفكرية، خاصة أنّ التضييق على الصحافيين مرتبط بالتضييق أيضاً على الناشطين وأصحاب الرأي وغلق الفضاءات السياسية والإعلامية.
التضييق على الصحافيين عادةً مرتبط بالتضييق أيضاً على الناشطين وأصحاب الرأي وغلق الفضاءات السياسية والإعلامية
ويعتقد كثير من المتابعين والفاعلين في الشأن السياسي في الجزائر أن السلطة فوتت على نفسها فرصة طرح مناخ أكثر هدوءاً، لإقامة بيئة أفضل لمناقشة القضايا السياسية المرتبطة بما بعد الحراك شأن مصادرة حرية ناشطين سياسيين. وعلّق المنسق السابق لمؤتمر المعارضة وزير الاتصال الأسبق عبد العزيز رحابي على قضية الحكم على درارني، معتبراً أن "مصادرة حرية ناشطين سياسيين في الحراك أو في أي إطار آخر، من خلال حكم قضائي، هي إجراء من عصر بائد، غير مقبول في الوقت الحاضر، ولا يخدم السعي إلى مخرج سلمي وتوافقي من الأزمة متعددة الأشكال التي تمر بها الجزائر". وأضاف أن "سياسة سجن أي مواطن، قبل حتى تجلي الحقيقة وثبوت التهمة، في حين أنه يمنح ضمانات قانونية بالامتثال للحكم، ولا يمثل تهديداً فعلياً للنظام العام والأمن الوطني، لن تجعل من الجزائر دولة أقوى عدلاً وعظمة، وأن غاية العدالة ليس الحد من الحريات الفردية والجماعية بل حماية الحقوق والحريات الأساسية ضد أي انتهاك. إذ يتلخص جوهرها في حماية المواطنين من تجاوزات وضغوط السلطة التنفيذية ومختلف جماعات المصالح والنفوذ". وانتقد رحابي استمرار تبعية القضاء للسلطات: "للأسف، لم يتمكن بعد نظامنا القضائي من التحرر من أعباء ممارسات النظام السابق، في سعيه لإقامة عدالة مستقلةٍ حقا، لا يمكن دون تأتيها تحقق التحول الديمقراطي. وعلى العدالة في الجزائر أن تدرك اليوم نصيبها من المسؤولية التاريخية في نجاح أو فشل الانتقال إلى الحوكمة الديمقراطية المنشودة".