سجننا الكبير

11 فبراير 2015
أربع سنوات كانت كفيلة بكفرنا بأي مستقبل (أ.ف.ب)
+ الخط -

قبل أربع سنوات من الآن، سألتني حارسة العقار الذي أسكنه "الشقق والحاجة حاترخص يا أم مريم زي ما بيقولوا بعد ما مبارك سابها؟"

قلت: إن شاء الله القادم أفضل بإذن الله.

ألحت في السؤال: "يعني الشقق حاترخص وحايدونا الفلوس اللي سرقها مبارك وعياله؟"

ابتسمت لها قائلة: الله أعلم يا "أم إسلام"..

هكذا كانت أحلام البسطاء عشية تنحي المخلوع. الحقيقة لم تكن أحلام البسطاء فقط، لقد حلمنا جميعا بمستقبل أفضل في بلادنا، التي شعرنا لأول مرة أنها "بلدنا بجد" وتصاعد سقف الطموحات ليفوق ناطحات السحاب، فالهم كبير والفقر حقير والبعض ظن أن التغيير سيصير!

أذكر أنني قبيل الثورة بأيام كتبت على صفحتي الشخصية في موقع التواصل الاجتماعي "وطن ومليان بالنطاعة" وهي كلمات مقتبسة من قصيدة للشاعر هشام الجخ لاستشعاري وقتها صدق كل حرف في هذه الجملة ووصفها لأوضاعنا، وفي 11 فبراير/شباط عقب تنحي المخلوع تراجعت وكتبت "وطني مليان بالكرامة".

أتذكر جيدا المنشورات التي كنا نتناقلها عقب الأيام الأولى من الثورة.. "من النهاردة البلد دي بلدك أنت.. ماترميش زبالة.. ماتكسرش إشارة .. ما تدفعش رشوة.. ما تزورش ورقة ..اشتكي أي جهة تقصر في شغلها.. فرصتك تبني بلدك بإيدك .. مصر بعد 25 يناير غير مصر قبل 25 يناير.." وغيرها من أحلام وأماني ثبت بعد 4 سنوات من مرور الثورة سذاجتها، بل و"هبلها"، أيضا فقد انتحرت "أماني" بل قتلت وحرقت قبل أن تغتصب وتنتهك في سجون العسكر.

أربع سنوات كانت كفيلة بكفرنا بأي مستقبل في "مصر العسكر"، فالورد الذي فتح في جناين مصر نجا من مصير أكثر إيلاما، فعلى الأقل عندما قتل في 2011 وجد من يبكي عليه ويتحسر على شبابه، حتى لو نفاقا وبهتانا، فضلا عن فوزه بالشهادة بإذن الله، أما الآن فلا صوت يعلو فوق الشماتة والتحريض والتشويه لكل من يجرؤ على أن يقول لا للظلم والقهر، فالدماء مستباحة ولائحة الاتهامات جاهزة والأبواق والأذرع تقوم بعملها على أكمل وجه.

وفقر الشعب وبؤسه وتجهيله وإنهاكه في سبيل العيش في بلد أصبح اليوم فيه بكافة تفاصيله جحيما لا يطاق أجبر العامة على الاستسلام و"الرضى بالقليل" والخضوع للـ"باشا"، ولتذهب الحرية والكرامة الإنسانية للجحيم، "ماهي مابتأكلش عيش".

أعرف شبابا وفتيات ممن كانوا ينظفون ميدان التحرير والشوارع عقب تنحي المخلوع يتعمدون الآن إلقاء المخلفات في الشوارع، فبعد تصاعد الأمل في إمكانية البناء والحصول على الوطن الذي نريد تحول الوطن إلى زنزانة كبيرة عفنة الرائحة كريهة المنظر، سجانوها غلاظ القلوب والحناجر، سياطهم قاتلة لا تفرق بين طفل ولا كهل ولا شاب ولا فتاة.

أغلب أصدقائي ممن لم يُقتلوا ولم يُسجنوا ولم يُحرقوا في محرقة الوطن فروا بدينهم وعرضهم من هذا الجحيم، والباقي ينتظر الفرصة.

فكما كانت أحلام "أم إسلام"، أو سميرة كما أحب أن أناديها، ساذجة كانت أحلامنا أكثر سذاجة، ومع ذلك فـ "سميرة" معها كل العذر، تلك المرأة الصعيدية التي لا تفك الخط، وأتت للقاهرة بحثا عن لقمة عيش لها ولأبنائها بالحلال .. فما عذرنا نحن؟

معنا الشهادات، وأمامنا التاريخ، ولدينا الدلائل لكي ندرك جيدا أن من سيطر على البلاد وابتلع خيرها لأكثر من ستة عقود، ولم يحرك ساكنا أمام الفقر والجهل والمرض والتدني الأخلاقي والاجتماعي وتفشي الفساد وانهيار كافة المؤسسات لن يتركها لحفنة من الشباب، لمجرد أنهم نزلوا بصدور عارية يهتفون "عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية".

قد نكون خسرنا الجولة الأولى من المعركة، ولكن الجولات أمامنا طويلة، ولم يسجل التاريخ نجاح ثورة في 18 يوما كما روجوا عبر إعلامهم وأذرعهم لإخماد شعلتها، ولا حتى خلال أربع سنوات، فالثورة مستمرة، ولكن بشكل أنضج وأقوى والجميع تعلم الدرس.. تعلمناه بدمائنا.. وأرواح أفضل وأنقى من فينا.. ولنا عودة.


(مصر)

المساهمون