ستيفانو سافونا لـ"العربي الجديد": أسرد الحكايات بكلمات من يرويها

29 اغسطس 2018
ستيفانو سافونا: السيسي طعن بنضال المصريين (العربي الجديد)
+ الخط -
بعد 9 أعوام من العمل، أنهى المخرج الإيطالي ستيفانو سافونا (1969) فيلمه "طريق سمونا" (2018)، المعروض للمرة الأولى في قسم "أسبوعي المخرجين"، في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ" السينمائي، والفائز بجائزة "العين الذهبية" لأفضل وثائقيّ.

بحساسية وعمق وإصرار على الإحاطة بالمأساة الفلسطينية من جوانب عدّة، وثّق سافونا تفاصيل المجزرة التي أودت بحياة 29 فردًا من عائلة السمّوني خلال عملية "الرصاص المصبوب" الإسرائيلية عام 2009.

يحملنا سافونا إلى مواقع التراجيديا في حيّ الزيتون في قطاع غزّة عبر إعادة تركيب أجزاء متشظّية من الحكاية، بالشهادات التقليدية حينًا وبالتحريك حينًا آخر، وأخيرًا باللقطات الجوية للقصف. السرّ كلّه في نظرته كامن في المسافة التي يقارب منها حصيلة صراع قد يطول كثيرًا.

في هذا الحوار، قال ستيفانو سافونا: "إذا أردتَ أن تُخبر قصّة والدك الذي يذهب يوميًا لشراء الخبز، فلا أحد سيهتمّ بما تقوله. الحكايات هي غالبًا حكايات صراع. سواء كنت شكسبير أم صحافيًا، أنت تحتاج إلى صراع. إذا وددتَ أن تصنع وثائقيًا، يجب أن تُمسك بصراعٍ ما. لهذا السبب أعود دائمًا إلى الشرق رغم أني أرغب في تغيير وجهتي كلّيًا، كي لا أصبح مهووسًا بهذه المنطقة".  

 

كيف توصّلتَ إلى إنجاز "طريق سموني"؟  

دخلتُ غزّة عبر مصر عام 2009 أثناء العملية العسكرية التي شنّها الجيش الإسرائيلي حينها. خلال مرحلة إقامتي في فلسطين، كنتُ أدوّن يومياتي يومًا بعد يوم، ثم أنشرها على "إنترنت". هي حكايات صغيرة تحدث زمن الحرب. وجدتُ فيها طريقتي "الجسدية" لأتحدّى الحصار الذي فرضته إسرائيل يوم أقفلت المعبر وصرخت فينا: "لا أحد يدخل غزّة". رددتُ قائلاً: "لا، بل هذا ممكن". في الحقيقة، هناك دائمًا حلّ إذا كنتَ مصمِّمًا على التسلّل إلى مكان ما. لا أحد يستطيع منعك عن ذلك.

انتهت الحرب. كنتُ على وشك العودة إلى إيطاليا عندما التقيتُ أفرادًا من عائلة سموني من حيّ الزيتون، وأخبروني قصّتهم. قصّة مروعة إلى درجة يصعب تصديقها. يومها، قلتُ لنفسي: "ربما عليك البقاء هنا لبعض الوقت". كان بودّي التأكّد من تماسك الرواية، ومدى صحّة المعطيات التي وضعها في تصرّفي هؤلاء الناس. ثم بدأ التقارب بيننا، فتعرّفتُ إلى العائلة من الداخل. اكتشفت أن الرواية أبعد من الظاهر. بقيتُ شهرًا في الجوار، ثم عدتُ إلى غزّة بعد عام لأبقى فترة أطول. أمضيتُ نحو 6 أعوام أحاول أن "أركّب" فيلمًا عن الحياة في هذا المكان. الحياة قبل المجزرة التي شهدتها.

الفيلم يتضمّن كذلك مشاهد تحريك. في الأخير، أنهيته بعد مرور 9 أعوام على احتكاكي الأول بعائلة سموني. 

 

ما نراه في الفيلم نقيض ما تقدّمه إلينا نشرات الأخبار على مدار الساعة. أنت تستخرج الإنسان من داخل الضحية.

صحيح. كلّ شيء تراه يأتي ممّا أخبرني إياه الناس في لقاءاتي معهم. أردِّد دائمًا أن لا خيال لي البتّة، لذا أنجز الأفلام الوثائقية (ضحك). كلّ لحظة من اللحظات، وكلّ حلم من الأحلام، يستند إلى معطيات حقيقية.

 

ألم تخف أن يُعتَقد أن موقفك مؤيّد لـ"حماس"؟

لا يهمّني بصراحة (ضحك). كنتُ محظوظًا أني قابلتُ أشخاصًا جيّدين في غزّة. لم أتعامل مع "حماس" بشكل مباشر. ظروف التصوير فرضت هذا. أنا ممنوع تقريبًا من دخول البلدان التي صوّرتُ فيها: تركيا بسبب تصويري فيها فيلمًا عن الأكراد؛ بالكاد أستطيع العودة إلى مصر بسبب "تحرير" (2011)، وهو عن الثورة؛ كذلك بالنسبة إلى إسرائيل، لأني أنجزتُ هذا الفيلم في غزّة. لا تزال الأمور على ما يُرام في لبنان، لكن لا أحد يعلم (ضحك). هذا هو الثمن الذي يجب أن أدفعه لقول بعض الحقائق. بالنسبة إلى مصر، من المؤسف أن تؤول الأحوال إلى ما هي عليه اليوم. (الرئيس عبد الفتاح) السيسي طعن بكلّ ما ناضل المصريون من أجله. في مصر، كنت أشعر أني في بلدي. الآن، لا أشعر بالراحة.  

 

كيف استطاع فريق العمل مرافقتك إلى أماكن تصوير فيها هذا القدر من الخطر؟ 

أعمل دائمًا وحدي. لا يشاركني العمل أي فريق. أتولّى تسجيل الصوت وألتقط الصورة، إلخ. هكذا أعمل منذ بداياتي. السبب الرئيسي هو أني لا أجد مَن يسافر معي، لأن الأماكن التي صوّرتُ فيها كانت دائمًا تحت خط النار. يصعب جدًا توريط الآخرين في مهمّة انتحارية كهذه. أفضّل أن أكون وحدي من أن أتحمّل مسؤولية مَن سيرافقني لمساعدتي تقنيًا، خصوصًا أن علاقته بالموضوع لن تكون كعلاقتي به. في البداية، كان هذا المحفّز الذي جعلني أعمل وحدي، ثم اكتشفتُ مع الوقت أن الأمر يصبّ في مصلحتي. فالدخول إلى أماكن صعبة وضيقة أسهل عندما تكون وحدك. ثم في الوثائقيّ، الشخصيات توفّر لك خيارين لا ثالث لهما: إما أن تتبنّاك وإما أن تطردك. تبنّي شخص بمفرده أسهل. عندما يتبنونك، هذا يعني أنك أتممت نصف المهمة. هكذا دخلتُ إلى بيئات تعيش صراعات معيّنة. هذا ينطبق أيضًا على "طريق سموني": ذهبتُ إلى هناك بمفردي. ولأني كنتُ بمفردي، لم أعد بمفردي.

 

أبحثتَ عن الخطر كي يكون جزءًا من مشروع الفيلم؟

تعاملتُ معه بواقعية. لم أبحث عن الخطر، وإلاّ لوجدتني مقتولاً منذ زمن طويل. دخلتُ غزّة وهي مشتعلة، فتشاركتُ بعض الخطر الذي يعيشه الناس هناك، لكن لم يكن هذا اهتمامي الأول. الأصعب كان عبور الأنفاق. إنه أمر مرعب.

 

منذ ارتباطك بعائلة سموني، أخرجتَ فيلمًا آخر بعنوان "تحرير"، عن أولى شرارة الثورة المصرية في الميدان الشهير.

صحيح. كنت مصمّمًا منذ البداية: إمّا أن أروي هذه القصّة بهذه الطريقة، وإمّا لا أرويها. في حال فشلتُ، لفضّلتُ القيام بشيء آخر. حكاية مجزرة حيّ الزيتون رُويت مرارًا وقتها. نقلتها "الجزيرة" ومحطات أخرى. كان خبرًا مهمًا في وقت من الأوقات، ثم اختفى. لم يكن هدفي ان أتحدّى المقاربة الإخبارية لهذه القضية، بل كان لي تعاطيَّ الخاص الأقرب إلى السينما، الذي يتيح لي أن أسأل: ماذا خلف الرواية، وكيف نستطيع أن نخطو خطوات إضافية لفهم الأشياء. أردتُ وضع المعلومات في سياق معين. هذا ما أحاول أن أفعله دائمًا. أحيانًا، أفعل هذا في موازاة الزمن الفعلي لتطور الأحداث، كما في "تحرير". أحيانًا أخرى، أحتاج إلى وقت كي أجمع مختلف قطع الـ"بازل". بدلاً من الاكتفاء بتسجيل حادثة معينة، أحاول إعادة تركيبها من دون هدف آخر سوى السينما. 

 

ولكن، لماذا شدّك العالم العربي إلى هذا الحد؟ هذا فيلم ثانٍ لك تُنجزه فيه وعنه.

عملتُ في الشرق الأوسط 25 عامًا. كان شغلي في علم الآثار. عشتُ في السودان ومصر وفلسطين وتركيا وكردستان. كان عمري 19 عامًا عندما جئت إلى العالم العربي للمرة الأولى. هناك، انتقلتُ من الآثار إلى صناعة الأفلام والسرديات. في البداية، كنت ألتقطُ الصُوَر الفوتوغرافية، ثم انتقلتُ إلى الصُوَر المتحركة. حتى أني أردتُ إنجاز فيلم في لبنان، لكن لم يتحقّق هذا الأمر. 

عمومًا، وجدتُ ضالتي في هذه المنطقة. برأيي، إنها مركز العالم. لطالما حاربتُ الفكر المسبق حول أعمالي، الذي يأتي من حقيقة أني لا أنتمي إلى الشرق الأوسط، بل أنا دخيل عليه. دائمًا رُسِمت علامات استفهام حول هذا. إلاّ أن هذا "الإتّهام" يخدمني أحيانًا. أتفهّم أن يتردّد أحدهم لسرد قصّته على غريبٍ مثلي. لكن، في المقابل، يجب أن نعلم أن الـ"بورتريه" الذي يرسمه الشخص لنفسه ليس أفضل الـ"بورتريهات".

عندما نتأمّل في المرآة، لا نرى وجهنا بل انعكاس له. شخصيًا، أُدرك أن جاري يعرف وجهي أكثر مني. ثم أني خلال الأعوام الـ25 التي عشتها في الشرق، بتُّ أعرفه جيّدًا لأحكي عنه. لكني أعلم أن وجهة نظري ستبقى دائمًا مشبوهة بالنسبة إلى العرب. لا ألومهم، فهذا طبيعي. أنا أصلاً ضد الاستشراق. أحاول مقاربة الأشياء أنتروبولوجيًا، لأني درستُ الأنتروبولوجيا أيضًا. يهمّني أن أسرد حكاية مستخدمًا كلمات مَن يرويها. تهمّني الكلمات بقدر ما تهمّني الرواية.

 

"تحرير" فيلم "استيتيكي" عن الثورة المصرية. في "طريق سموني"، تولي أهمية كبرى للحدث على حساب الجماليات (ما عدا مَشَاهد التحريك).

صوّرتُ في ظروف صعبة للغاية. استخدمتُ تقنيات كانت تُستخدم قبل 10 أعوام. عندما صوّرتُ "تحرير"، كانت لديّ كاميرات أخرى أكثر سينمائية غير موجودة عام 2009 عندما دخلتُ منطقة حرب. غنيٌّ عن القول إن الجمال عندي وسيلة تواصل. في غزّة، كان الأمر مستحيلاً، نظرًا إلى الشروط التي عملتُ فيها يومذاك.

المساهمون