سارا درايفر: "القائمون على السينما اليوم لا يُجازفون"

08 فبراير 2019
سارا درايفر: أنا مُسيَّسة (Rob Kim - Getty)
+ الخط -

"الخيال هو الدين الجديد"، تقول المخرجة والممثّلة الأميركية سارا درايفر، بإصرار وحزم، في لقائها مع "العربي الجديد"، الذي ردّت فيه على أسئلة من وحي تجربتها السينمائية، في ضوء عودتها إلى الإخراج بعد نحو ربع قرن، بالفيلم الوثائقي Boom For Real، عن فترة المراهقة السابقة على شهرة الفنان الأميركي جان ميشال باسكيا (1960 ـ 1988).

شيء أساسي مشترك بين درايفر وباسكيا: سبعينيات نيويورك وثمانينياتها (في القرن الـ20)، التي شكّلت وعيهما وثقافتهما وفهمهما للحياة. داريفر، التي تُعتبر من رموز السينما المستقلّة في العالم (كانت شريكة جيم جارموش أعوامًا طويلة)، ابنة هذه الفترة المُلهمة، تتحدّث في الحوار التالي عن المعنى الحقيقي لهذه السينما التي شُوِّهت مع الزمن؛ كما أنها تقول بضرورة الانتصار للمُشاهدة الجماعية.

(*) ما هي حال السينما الأميركية المستقلّة اليوم؟ 
ـ للأسف، أماكن العرض صار عددها أقلّ مع مرور الوقت. في عهد (الرئيس الأميركي) رونالد ريغان، تغيّر شيء أساسي في أميركا، مع سنّ قانون يمنع الموزّعين من امتلاك صالات عرض لهم. هذا أخضع الصالات كلّها لسلطة الـ"مايجرز"، وهؤلاء يعطون الأولوية لأفلامهم، ما يقلّل فرصة وصول السينما المستقلّة إلى الناس. طبعًا، هناك وسائل أخرى للمُشاهدة، مثل الـ"ستريمينغ" أو الـ"دي. في. دي.". لكن هذه ليست الطريقة المثلى لاكتشاف الأعمال السينمائية.

في حالتي، إذا لم أشاهد فيلمًا في صالة سينمائية، لن أتذكّره. بمعنى آخر، فإنّه يغادر ذاكرتي فورًا. فضلاً عن أنّ السينما المستقلّة الحالية بات "يقودها" المشاهير، وهي لم تعد مستقلّة تمامًا. هذه العبارة ما عادت بتلك الدقّة التي كانت عليها في الماضي. قلّة لا تزال مستقلّة. حتى هارفي وينستين كان يُسمّي نفسه مستقلاً، في حين أنه لم يكن كذلك. إنه واحد من الـ"مايجرز" (ضحك). هذه العبارة باتت تُستخدم للدلالة على أشياء عديدة. جيم جارموش هو المخرج الأميركي الوحيد، من بين الذين أعرفهم، الذي يمتلك حقوق أفلامه. مع مرور الوقت، ظهر عددٌ كبيرٌ من الأفلام التي شوّهت هذه التسمية، وبعضها ليس أكثر من برنامج منتمٍ إلى "تلفزيون الواقع".

(*) في سبعينيات القرن الـ20، كان السينمائيون المستقلّون يتعاونون بعضهم مع بعض ضمن أجواء توحي بالتضامن والرغبة في صنع شيء مختلف عن السائد. كانت روحية العمل الجماعي هي المسيطرة. هل لا يزال هذا موجودًا إلى اليوم؟ 

ـ الأمور تغيّرت. حينها، كنّا شبابًا، وكان الجميع يساعدون الجميع. طبعًا، لا نزال نتعاون بعضنا مع بعض، ونشجّع بعضنا بعضًا، خصوصًا الذين يعملون في نيويورك. في المقابل، أعرف سينمائيين في العشرينيات من أعمارهم يفعلون حاليًا ما كنّا نفعله عندما كنّا في العشرينيات من أعمارنا. يجب القول إنّ بروكلين هي المكان المناسب لهذه الأشياء في الوقت الراهن. فيها طفرة فنية وموسيقية كبيرة. هي اليوم ما كانته نيويورك لنا في نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات الفائتة. 


(*) أخرجتِ ومثّلتِ في أفلامٍ، وكنتِ مساعدة لعدد من السينمائيين. أيٌّ من هذه الوظائف تعبّر عنكِ بشكل أفضل؟
ـ أميلُ إلى الإخراج. عندما تسنح لي الفرصة لإنجاز فيلم، أستغلّها لتشكيل عالمٍ متكامل يُعبّر عن رؤيتي للأشياء. مَنْ لا يحبّ أن يخلق عالماً؟ مَن لا يحبّ أن يروي قصصًا؟ أجد نفسي حكواتية أكثر من أي شيء آخر. الحكايات هي التي جاءت بي إلى السينما. أحبّ كذلك أن أستمع إلى القصص، خصوصًا تلك التي تحملني إلى أماكن بعيدة. يُسعدني ـ أكثر من أي شيء آخر ـ أن أختفي خلف القصص. مقياس جودة الفيلم بالنسبة إليّ هو صموده في ذاكرتي أطول وقت ممكن. الأفلام التي أشاهدها وأنساها فورًا لا تهمّني، حتى وإنْ كانت مصنوعة بشكل جيد.

(*) هل امتلكتِ دائمًا الحرية لإنجاز الأفلام التي تريدينها؟ 
ـ نعم. لطالما حظيتُ بالسيطرة الكاملة على أفلامي. لا يوجد طرف كان يملي عليّ توجّهاته. هذا لا يعني أني لا أحسد الفنانين التشكيليين الذين يشتغلون بمفردهم من دون أي تدخّل من أحد. لا يحتاج الرسّام إلا إلى ريشته وقماشته البيضاء.

لكن، مع ذلك، أحبّ التعاون مع الآخرين. تستهويني فكرة أن أشخاصًا آخرين سيساهمون في إضافة شيء ما من عندهم على حكاية تخيَّلتها. يأتون بأفكار لم تتخيّلها قط، أو لم تحلم بها. كلّ ما عليك هو أن تختار منها ما يعجب خاطرك، وهذا أمر عظيم.

لطالما تلقيتُ دعمًا كبيرًا لإيجاد تمويل من أناس كانوا يؤمنون بي. لكن، لأن صياغتي الأفلام ليست "تجارية" بحسب مفهوم المموّلين، تجدهم متردّدين. شاهدتُ مرة بيتي دايفيس تتحدّث في برنامج تلفزيوني، وتقول: "جميع المنتجين العظماء مقامرون". اليوم، لم يعد هناك مقامرون. القائمون على السينما لا يجازفون، ومن دون مجازفة لا تحصل على أية نتيجة. 


(*) يقولون إنكِ مغامِرة. 
ـ (ضحك) نعم، أنا كذلك فعلاً. في الحياة التي عشتها، حاولتُ ألا أضع حدًا لنفسي. الأشياء التي تُقْترح عليّ كنتُ أفنّدها لأرى ما إذا كنتُ فعلاً أرغب في اتّخاذ هذا الاتجاه.

(*) شاركتِ في عدد من لجان تحكيم المهرجانات السينمائية. هل تنظرين إلى الأفلام بعين المخرجة أم المتفرّجة؟ 
ـ أهوى مشاهدة الأفلام، ولهذا السبب أحبّ الانضمام إلى لجان التحكيم، لأنه لا يوجد شيء آخر نفعله سوى المُشاهدة. عادةً، نمضي يومنا في المُشاهدة، ثم في الليل نخوض النقاشات عمومًا. تحرص المهرجانات على انتقاء أناسٍ مثيرين للاهتمام في لجان التحكيم. لا شيء أجمل من هذا في الحياة. طبعًا، هناك مسؤولية، وربما أقلّ ما يُعجبني في هذه المسألة أن نُحاكم الأفلام. ليتنا نقدر على منح الجوائز للجميع. أصلاً، مجرّد تحقيق فيلم هو إنجاز كبير.

(*) للأسف، المهرجانات قد تختفي يومًا ما إذا تحوّلت المُشاهدة من جماعية إلى فردية.
ـ هذا شيء محزن للغاية. نحن بشر يحتاج أحدنا إلى الآخر. أعتقد أن هذه التكنولوجيا كلّها مُخيفة، خصوصًا إذا وقعت في أيدي الأطفال الذين تراهم جالسين، أحدهم إلى جانب الآخر، يبعثون الرسائل عبر "تويتر" إلى بعضهم البعض بدلاً من الاستمتاع بالرفقة فيما بينهم.
أتذكّر أني كنت أرتاد صالة سينمائية في الـ"تايمز سكوير" فقط لأن الناس هناك كانوا يتفاعلون خلال العرض بطريقة عفوية. يصرخون عندما يدهم الخطر الشاشة. هذا الشعور الموحَّد إزاء الأشياء، الذي يجمعك بشخص جالس إلى جانبك، هو شيء في منتهى الروعة. لا نريد فقدان هذا. إنه جزء من هويتنا كبشر.

(*) ماذا تعني "سينما مؤلّف" بالنسبة إليك؟
ـ المؤلّف هو شخص يكتب سيناريو فيلمه ويختار ممثّليه ويتولّى تنفيذ المونتاج من دون أن يستجيب لأوامر أي طرف ورغباته. هذه هي، بالنسبة إليّ، سينما المؤلّف.

(*) كيف تتعاملين مع الفشل الجماهيري؟
ـ عليك أن تتعلّم من الإخفاقات وتمضي قُدمًا. ارتكاب الأخطاء ضروري. أحب كلام المخرج الياباني أكيرا كوروساوا، الذي قال ذات مرة، بعد أعوام مديدة من العمل في حقل السينما، إنه لا يزال تلميذًا يتعلّم كيف ينجز الأفلام. هذه مقاربة جميلة. بالإضافة إلى أني مؤمنة بأن بعض الأفلام يحتاج إلى الزمن كي يختمر. لا يتفاعل معه الناس حينها، ثم فجأةً، وبعد أعوام، تتكرّس.

(*) هل أنتِ مُسيّسة؟ 
ـ أنا من الذين ينتصرون لنظرية المؤامرة (ضحك). والدي شخص محافظ للغاية. بعد 11 سبتمبر/ أيلول (2001)، عندما سمع نظرياتي المؤامراتية، وافقني الرأي. نظرياتي تدعم فكرة أن "11 سبتمبر" صناعة الحكومة الأميركية. على الأرجح أن ديك تشيني هو الذي خطط لكلّ شيء، والحكومة تساهلت.

عشتُ تجربة غريبة جدًا في 11 سبتمبر/ أيلول. عندما حصل الاعتداء، كنتُ في مكان قريب. رأيتُ كلّ شيء بتفاصيله، بدءًا من لحظة اصطدام الطائرة بالمبنى. الـ"تروما" التي عشتها تحوّلت مع الوقت إلى غضب، وهذا ردّ فعل طبيعي. صديقة لي، في الثمانينيات من عمرها، سألتني عن سبب غضبي، وسبب غضب مَن هم في عمري. قلتُ لها: "انظري، أنا ولدتُ أثناء عملية "خليج الخنازير". كذّبت حكومتي عليّ خلال حرب فيتنام. هذا بلد شهد اغتيالات وفضائح من عيار "ووترغايت". فكيف لا أكون مرتابة حيال مَن يدير شؤونها؟ كيف لا أحاول البحث عن حقائق أخرى غير تلك التي يحاولون قولها لنا".

الأحداث التاريخية التي تعبرها في حياتك هي التي تصوغ نظرتك إلى العالم، وتشكّل وعيك السياسي. كلّ شيء يتعلّق بـ"أين ولدتَ" و"كيف تفاعلتَ مع الأحداث". لهذا السبب أقول: "نعم، أنا شخص مُسيّس". كما أني لا أقبل أن تُملى عليّ طريقة صنع معينة للأفلام، لا أقبل أن أخضع لأكاذيب السلطة.

استطرادًا، لطالما وددتُ أن أشارك في مهرجانٍ محصور بـ"الأفلام المؤامراتية". هذا حلم في الحقيقة (ضحك). أفلام كـ"المرشّح المنشوري" (الأول لجون فرانكنهايمر، مُنتج عام 1962؛ والثاني لجوناثان ديمي، مُنتج عام 2004) مثلاً.
دلالات
المساهمون