سؤال التأثير

08 يناير 2019

(Getty)

+ الخط -
ما الذي يجعل لكتابٍ، مثل "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبدالرازق، كل هذا التأثير الذي يفوق كتاباتٍ أخرى أكثر جديةً وعمقاً؟ ما الذي يجعل من كتبٍ، مثل "تحرير المرأة" لقاسم أمين، و"الحجاب والسفور" لنظيرة زين الدين، و"امرأتنا بين الشريعة والمجتمع" للطاهر الحداد، و"في الشعر الجاهلي" لطه حسين، كل هذا الذيوع والانتشار؟ ما الذي يجعل من الشيخ متولي الشعراوي إماما للدعاة، على الرغم من تواضعه في علوم أصولية مركزية، مثل الفقه والحديث؟ ما الذي يجعل من حازم أبو إسماعيل المرشح الأكثر جماهيرية في مصر، بعد ثورةٍ شعبية، تصدّرتها شعارات يسارية، وأنتجها وعي جيل الثورة الرقمية؟ ما الذي يجعل من عادل إمام نجم العرب الأول، لسنوات طويلة، وفي مجايليه، في مصر وخارجها، من يفوقه موهبة، وجدية، وعمقا؟ ما الذي يجعل الإعلام المحلي أكثر مشاهدة من الإقليمي، والجرائد الأخف وزنا أثقل حضورا؟
الإجابة الأقرب هي أن الجمهور لا يريد عمقا، وأن مشاهدات هيفاء وهبي تفوق مشاهدات كل "تراكات" فيروز وأم كلثوم، وأن الاختيار دائما بين أن تكون عميقا وخالدا أو تافها ومؤثرا. في تصوري، ليست المعادلة بهذا الشكل دقيقة، والدليل هو الأمثلة السابقة نفسها، فهي لكتّاب ومفكرين وعلماء وفنانين، لم يكن ينقصهم من الموهبة والأدوات ما يمكّنهم من إنتاج الأثقل والأعمق، بل إن لبعضهم تجارب أخرى، غير تجاربهم الأكثر انتشارا وتأثيرا، تشهد بقدرتهم على اجتراح مساحات العمق والنخبوية، إلا أنهم أدركوا أن معادلة التأثير مختلفة، وأن الهموم المعرفية والجمالية للمحترف ليست كذلك للمتابع، صاحب الهواية والشغف، المستهدف الأول والرئيس، من وراء هذه الشواغل والهموم، وأن ثمّة نقطة التقاء يجب أن يصلوا إليها، إن هم أرادوا ألا تضيع جهودهم عبثا، وإنْ أفقدهم ذلك متعة أن يكتبوا لأنفسهم، أو أن يتمثلوا غابرييل ماركيز حين يقول: أكتب لكي يحبني أصدقائي، فليس كل الناس أصدقاءنا، أو أصدقاء ماركيز؟
ليس الثمن بالضرورة أن تتخلى عن عمقك، ولكن أن تبسّطه. هذا أصعب بالمناسبة، كان بعضهم يأخذ على الدكتور زكي نجيب محمود، في منتصف سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، جنوحه إلى التبسيط، وفهم القاصي والداني لما يكتب، وهو أستاذ فلسفة وضعية، عليه أن يتعالى بلغته كما يتعالى بوعيه، في حين أن أحدا لم يؤسّس لوعي وضعي حقيقي من خلال كتاباته المتنوعة عن اليومي والعابر والأبدي والخالد، مثل صاحب "قشور ولباب"، وأيا كان رأينا في توصيف الرجل المختلف عليه، بين كونه فيلسوفاً أو مجرد مدرس للفلسفة، فقد ساهم في "تغيير" قارئه، وجذبه إلى مناطق نفوذه وتأثيره.
"الجمهور لا يريد ذلك"، كان يخبرنا أحد أساتذة الصحافة في مصر، تحول الآن إلى أحد مبرّري سياسات النظام. إن الجمهور يأكل ما يوضع له على المائدة، المهم أن يجيد الطاهي، ليبدو شهيا، ووقتها سيتناوله الناس، طيبا كان أو مسموما، العمق الذي يتخفى خلف البساطة، والجدّية التي تتسلل عبر الإمتاع، واللغة الدارجة التي تحمل وعيا نادرا، وهموم الداخل التي لا تنفصل عن محيطها، والعواطف التي تفرش الطريق أمام الأفكار.
قواعد عامة، ملقاة على قارعة الطريق، كأفكار الجاحظ، ليست حكرا على المستبدّين، ولا سدنته، تخدم الحق كما تخدم الباطل، تحمل العمق كما تحمل نقيضه، تخدم من يُتقنها، ويتحمل كلفتها. ليس صحيحا أن الحق لا ينتصر، بالضرورة، وأن قيم العدل والحريّة مجازات شعرية. المشكل أن أصحاب القيمة، والحلم، أكثر رومانسيةً ورغبةً في الكمال من أن يتباسطوا. هنا يكمن التحدّي، كيف تقنع من تعود عبور "المانش" بأن يعمل مدرباً في مسبح أطفال، كيف تقنع امرأ القيس بأن يكتب أغنيةً لأصالة؟
هكذا ينتصر الأنبياء ولا ينتصر الفلاسفة.
دلالات