سأعيش في جلباب أبي

24 ديسمبر 2014
+ الخط -

دهشت كثيراً، حين قرأت، مرة، خبراً عن ابنٍ يحتفظ بجثة أبيه، أو أمه، لكي يحتفظ أيضاً بمعاش التقاعد الخاص بأحدهما، لأنه عاطل من العمل. حدث ذلك في دولة عربية وأخرى أجنبية، والغريب أن الأمر انكشف بعد سنوات. لم أصدق، ولكن، ما رأيته من انتشار ظاهرةٍ بعينها في غزة جعلني أجزم أن أبناءً كثيرين سيحلمون بإخفاء خبر وفاة الأب، أو الأم، أطول مدة ممكنة، وللسبب نفسه، لكن قوانين المعاشات والتقاعد في غزة ستكون، لأحلامهم وأمنياتهم، بالمرصاد، حيث توفد هيئة التأمين والمعاشات مندوباً، نهاية كل عام، للتأكد من أن الموظف المتقاعد لا زال على قيد الحياة، أو تطلب شهادة من مختار عشيرته تفيد بذلك، ويكون المختار مسؤولاً عنها في حال سفره.
في غزة، وبسبب الوضع الاقتصادي السيئ وبطالة الشباب وارتفاع سن الزواج، أصبح الأب الذي كان موظفاً حكومياً، ووصل إلى سن التقاعد يزوّج ابنه، أملاً في الذرية، وينفق على الابن المتزوج، العاطل من العمل، بعد حصوله على شهادة جامعية، وربما يعيش الابن مع زوجته، وما سيرزقان به من أطفال في البيت نفسه، مع الأب والأم، أو يعيش مع عائلته الجديدة في شقة مستقلة في البناية نفسها، فغزة لا زالت متمسكة بنظامها الاجتماعي المترابط، فالابن يحرص على الزواج في بيت العائلة، أو استئجار شقة قرب بيت العائلة. في المقابل، نرى أن العائلة التي لديها عدة بنات في سن الزواج لا تتردد في تزويج إحدى بناتها من شاب مؤهل علمياً، لكنه لا يعمل، ويكون من مؤهلاته أن والده موظف متقاعد لدى الحكومة، أي لديه راتب شهري، أو أن والده كان موظفاً لدى "أونروا"، وبعد تقاعده، حصل على مبلغ ضخم بالعملة الأميركية، مكافأة نهاية الخدمة، ما يعني أنه سيكون قادراً على الإنفاق على عائلة ابنه.
التقيت، مرة، سيدة مسنّة أمام بنك، أخبرتني أن زوجها أصبح في الثمانين، ولم يعد قادراً على الخروج من البيت، ففوضها بتوكيل عام لتتسلم معاش تقاعده، وأردفت في حسرة وأمل بقولها: يا رب يطول بعمر هالختيار، فهو مصدر الدخل الوحيد للعائلة، فأولادي الأربعة تخرجوا من الجامعة، ولم يحظ أي منهم بوظيفة، ولولا معاش تقاعد الأب لمتنا جوعاً.
كانت السيدة تجلس على الرصيف، في انتظار أن يفتح البنك أبوابه مع عشرات من المسنين الذين ينتظرون، في لهفة، بدء الدوام في البنك، لتسلّم معاشاتهم، ومنهم من جاء بصحبة أحد أولاده، أو أحفاده، ولسان حال هؤلاء يقول: معاش تقاعد الختيار أفضل من الهجرة، أو أن نكون طعاماً لسمك البحر.
ينص قانون التقاعد،  الصادر عام 1964 في غزة، أن الابن بعد وفاة الأب يحرم تماماً من حقه في معاش تقاعد الأب، كما تحرم الابنة في حال زواجها، وتصرف لها نسبة من معاش الأب، في حال عدم زواجها، وإذا كانت مريضة بمرض لا يرجى شفاؤه، أو مطلقة، أو أرملة، وليس لديها مصدر للدخل، فيما تستفيد أرملة الموظف المتوفى بنسبة من معاشه، طالما لم تتزوج أيضاً، وقد قدمت شكاوى عديدة لهيئة التأمين والمعاشات، يطالب فيها الورثة بمبالغ اقتطعت من راتب الأب كل شهر في أثناء عمله، بدعوى أنها ستكون ادخاراً لمعاش التقاعد، حالة استثنائية. ويتساءلون أين ستذهب هذه المبالغ، في حال عدم وجود بنات ووفاة الأم، ويكون الأبناء الذكور قد تخرجوا من الجامعة، ولم يجدوا عملاً، كما غالبية شباب غزة، فأبناء الموظفين هؤلاء يشعرون بالظلم، بسبب حرمانهم من معاشات التقاعد، والتي يرون أن من الأجدر أن تصرف لهم، ليعتاشوا منها، وفي حال عدم حاجتهم لها، يتبرعون بها، صدقة جارية عن الأب الراحل.

 

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.