زيت وزعتر

11 نوفمبر 2015

جرافة إسرائيلية تقتلع أشجار الزيتون في بيت لحم (17اغسطس/2015/Getty)

+ الخط -

هناك طرفة يتداولها رواد مواقع التواصل الاجتماعي حول جل اهتمام النساء العربيات، فكتب أحدهم: إذا أردت أن تعذب المرأة الفلسطينية فاحرمها من زيت الزيتون. وهذه حقيقة، لأن السائل الذهبي لها فيه مآرب كثيرة، أولها أنه الحل السحري لتسكين جوع صغارها، حيث اعتادت الأمهات على إعداد الخبز بالزيت والزعتر، محشواً أو مدهوناً على سطحه. واستخدمنه أيضاً في تدليك جسم المولود بمجرد ولادته، لكي يشب قوي العصب كامل الرجولة، أما المولودة الأنثى فترى الأمهات أن تدليك جسمها به يمنحه نعومة، ويحميها من رائحة العرق المنفرة مدى حياتها.

 انتهى هذه الأيام موسم قطف الزيتون في فلسطين، وذكرت إحصائيات أنه كان موسماً خاسراً، خصوصاً بعد حرق المغتصبين الصهاينة آلاف الأشجار بعد أن حان قطاف ثمارها،  فهم يعرفون أن الفلاح الفلسطيني ينتظر الموسم مرة في العام، ليبيع المحصول ويعصر الزيت ويخزنه مؤونة العام، فقد حرقوا الأشجار وقطعوا على الفلاحين طرقهم لجني المحصول، وتعرضوا لهم بالأذى.

يعد موسم قطف الزيتون من أجمل الأيام التي تحمل ذكرياتٍ كثيرة، خصوصاً مع حصول الطلاب على إجازة من المدارس، لمساعدة ذويهم في قطف الأغصان. ويشرف كبار السن على العمل موبخين الصغار، لاستخدامهم العصا في قطف الثمار، لأن هذا السلوك يضر بالموسم المقبل، كما يعتبر إهانة للشجرة المباركة، كما أنهم قسموا المواسم على أن هناك عاماً للبلح وآخر للزيتون، بمعنى أن يغلب إنتاج أحدهما على الآخر بطريقةٍ، يعرفها الفلاحون باسم "تبادل الحمل"، أو يقولون "سنة ماسية وسنة شلتونة".

في بيتنا القديم، زرع جدي زيتونة، وكان يفخر دوماً بأن يده خضراء، بمعنى أن أي غصن صغير يغرسه في الأرض يكبر سريعاً، ويصبح شجرة مثمرة، لكن ثمار هذه الشجرة كانت صغيرة، وجدي يصفها بأنها "قليلة اللحم"، حسب تعبيره الفلاحي، وكان أن طلب المشورة من جاره العجوز الذي تمتلئ حديقة بيته بأشجار الزيتون، فأتى بفسيلة من إحدى شجراته، ولقح بها شجرة جدي اليتيمة. وعلى الرغم من اعتراض جدي، كونه فلاحاً أصيلاً، وأن هذا الإجراء لن ينجح غالباً، إلا أن هذا الجار فعل ذلك، وهو يئن من المرض، وأمام اعتراض أولاده، لأنه غادر فراش مرضه، وتوفي الجار بعد أيام قليلة، ونجحت عملية التلقيح، وظهرت بشائرها في الموسم الجديد، وظهر مكان عملية "الترقيع"، كما كان يسميها جدي، غصن ضخم حمل ثماراً كبيرة لامعة، مكتنزة بالزيت، ففرح بها وطفرت عيناه بالدموع، حين تذكّر جاره الراحل، وأوصانا جدي بالشجرة خيراً، وكان يؤنبنا صغاراً، لو سار أحدنا بجوار الغصن الثري المتدلي، والذي أطلق عليه اسم جارنا الراحل، فأصبح اسمه غصن أبو حامد، وأصبح محصوله يزيد على محصول أغصان الشجرة العجفاء كله.

لا يمر موسم الزيتون من دون أن أتذكر قصتها، فقد أحبت شاباً كان يشارك عائلتها في قطف زيتون "بيارتهم"، ويفعل ذلك تطوعاً، لكي يراها من بعيد، ولم يكن يستطيع البوح بمشاعره لها، حتى جلست ذات يوم أمام فرن الطابون، لتعد الخبز المدهون بالزيتون والمرشوش بالزعتر، فمر من أمام الفرن، فألقت رغيفا ساخنا نحوه، تلقّفه وكأنه يتلقفها بين أحضانه، لكن شقيقها شاهد المشهد، فجن جنونه وشطح خياله، بما يمكن أن يكون بينهما، واعتبرها مجرمة، وقرّر أن تتزوج على وجه السرعة بشقيق زوجته. وهكذا انتهت قصة حب، مات بطلها في حرب 1948 أما البطلة فماتت ألف مرة بعد ذلك، حتى ميتتها الأخيرة في 1981.

شعرت بعظمة ما نملك من ثروة في بلادنا، حين لمحت زجاجة زيت زيتون صغيرة في صيدليه مصرية، وحين كانت تصر جارتنا المسيحية على أن نهدي إليها قناني صغيرة من "زيت غزة"، حين نزور مصر كل صيف، لكي تملّس به شعرها الفضي، وهي لم تكن تعرف له استخداماً آخر، لكن أمي سرعان ما علمتها طريقة عمل الخبز بالزيت والزعتر "المناقيش".

 

 

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.