عند كل تأريخ نكون في حاجة إلى مرجعيات، في حاجة إلى سند ومحور حوله تدور الأحداث، ونسبة إليه تقاس فتتخذ معناها وقيمتها. إلا أن هذه المرجعيات غالبا ما تَنْسى نسبيتها لتصبح معلمة المعالم، والحجر الأساس الذي عليه يقام كل تأريخ، وإليه تُسند كل الأحداث، وحينئذ لا يغدو في الإمكان النظر إلى التاريخ إلا من مركزه.
الأمثلة على ذلك كثيرة. ففي مجال الفلسفة القديمة، أرخت الفلسفة نسبة إلى سقراط. هناك من قبله، ثم هناك من بعده. هناك ما قبل السقراطيين، ثم هناك من بعدَهم من كبارهم، ثم صغارهم. هذا شأن الفلسفة الحديثة أيضاً، هناك كل ماقبل ديكارت ثم من جاء بعده. في الموسيقى، يشكل باخ حجر زاوية تفصل بين تاريخين، وفي الأدب، غربيّه وعربيّه، كثيرا ما اعتمدت "أحداث" خارج الأدب مراكز لتأريخ الأدب ذاته.
ذلك ما كان شأن النزعة الكلاسيكية في تاريخ الأدب الغربي على سبيل المثال، كما أثبت رولان بارت. ويكفي، في نظره، دلالة على ذلك التمركز، التنبيه إلى الفضاء الذي ما زالت معظم رسائل الدكتوراه، يتم الدفاع عنها داخله. إنه قاعة لوي ليار في جامعة السوربون: "علينا أن نحصي عدد الصّور التي تعجّ بها جدران تلك القاعة. إنها الآلهة التي تهيمن على المعرفة الفرنسية في مجموعها: هناك كورني وموليير وباسكال وبوسويي وديكارت وراسين، وكل هؤلاء تحت رعاية ريشوليو".
كل حركة تقاس، وكل حدث يوزن نسبة إلى هذا المركز، فما يتقدم المركز أو يلحقه يعتبر تمهيدا له أو تخليا عنه: "من يتقدم الكلاسيكية يمهد لها، ومن يلحقها يستعيدها أو يتخلى عنها".
ضد هذا التمركز حول النزعة الكلاسيكية، ينادي رولان بارت بإقامة تاريخ أدب تراجعي يقلب هذه النزعة التي طبعت تاريخ الأدب الفرنسي، بل طبعت كل أشكال التأريخ بما اقتضته من تنويع ضروري للمراكز. لا يعني قلب "نزعة التمركز حول الكلاسيكية" إهمال التراث الأدبي، إلا أنه لا يعنى كذلك الاستغناء عن كل تمركز، وإنما استبداله، ولكن، ليس بمركز آخر، وإنما زحزحة المركز الذي يجعل ذلك التراث نفسه يدور عليه. يتعلق الأمر بإقامة تاريخ تراجعي "ينير فيه الحاضر الماضي"، أو على حدّ تعبير بارت نفسه:
"عوض النظر إلى تاريخ الأدب من خلال منظور تكويني مغلوط، ينبغي أن نجعل من أنفسنا نحن مركز هذا التاريخ. سننطلق من القطيعة المعاصرة الكبرى ونجعل هذا التاريخ ينتظم حول تلك القطيعة. وعلى هذا النحو سنتكلم عن الأدب الماضي انطلاقا من لغة الحاضر، بل انطلاقاً من لسان الحال".
النظرة الأولى إلى التاريخ نظرة اتصالية تسعى إلى مدّ خيوط الوصل بين الحاضر والماضي، والكشف عن "النفس الخالدة التي ترقد في كل حاضر"، أما النظرة التراجعية فهي انفصالية "تجعل التاريخ برمته ينتظم حول القطيعة المعاصرة"، وتجعلنا نرتبط بماضينا بمقدار ما ننفصل عنه.
لا بد، والحالة هذه، من أن يكون التاريخ التراجعي تاريخاً انتقادياً تقويضياً. فلا تراجع بدون انفصال، ولا انفصال بدون انتقاد. إلا أن هذا الانتقاد يظل هو السبيل الوحيد لتقديس من ينظر إليهم التاريخ الاتصالي على أنهم "آلهة الفكر"، والأهم من ذلك أنه هوالطريق الممكن لرصد "الحدث" الأدبي في وحدته وتفرّده.
ذلك أن التاريخ الأوّل، إذ يجعل كل حدث عالقا بالمركز، إما تمهيداً أو عودة واسترجاعاً، فإنه يذيبه في حركة مستمرة، ويحشره ضمن الكلّ الموحّد. أما التاريخ التراجعي فإنه، إذ يحاول خلخلة المركزية، ينظر إلى الأصول من حيث هي مشتقات الفروع، ويرى إلى"الأحداث" الفكرية والأدبية كتحولات تعمل كتأسيس وتجديد للتأسيس.