روسيا ترد على العقوبات الأميركية بشراكات جديدة

15 ديسمبر 2014
لقاء مرتقب بين لافروف وكيري (لورينت غيليرون/فرانس برس)
+ الخط -
تترقب الأوساط السياسية والاقتصادية ما يمكن أن يفعله الكرملين ردّاً على واشنطن، بعد إقرار مجلس الشيوخ الأميركي لقانون جديد يتيح للإدارة الأميركية فرض مزيد من العقوبات على روسيا وتشديد الخناق عليها اقتصاديا، طمعاً بخروج الناس على الكرملين.

وكان اللافت أنّ القيادة الروسية، بعدما حسمت خياراتها وأزاحت لثام الدبلوماسية عن علاقتها بالغرب الأطلسي عموماً والولايات المتحدة خصوصاً، لم تبد ردوداً انفعالية، بل راحت تعمل بهدوء وثبات على تفكيك النظام العالمي الأحادي القطب، نحو تأسيس أقطاب جديدة قائمة على المصالح الاقتصادية بالدرجة الأولى.
عقوبات ولقاء
وصادق مجلس الشيوخ الأميركي على مشروع قانون تحت عنوان "قانون لدعم حرية أوكرانيا 2014"، وهو يتيح للإدارة الأميركية فرض عقوبات جديدة ضد الشركات الحكومية الروسية، بما فيها "غازبروم" و"روس أوبورون إكسبورت"، فضلاً عن تقديم مساعدة عسكرية لكييف.
إلى جانب ذلك، يمكن لأوكرانيا وجورجيا ومولدوفا مع بدء العمل بهذا القانون، أن تحصل على وضعية شريك خاص من خارج حلف شمال الأطلسي، يمنحها امتيازات أميركية خاصة، ويضعها بصورة غير مباشرة في إطار الرعاية الأميركية.

ولما كان "قانون دعم أوكرانيا"، قد أقرّ عشية لقاء روما بين وزيري الخارجية الروسي سيرجي لافروف والأميركي جون كيري، فيرجح أن يصبح موضوعاً للنقاش بينهما، لكن دون انتظار أن يغير اللقاء في طبيعة الخلاف حول أوكرانيا وطريق العقوبات الذي تنتهجه واشنطن. وفي هذا الشأن، نقلت قناة "إن تي في" الروسية تعليق مساعد وزير الخارجية الروسي، سيرجي ريابكوف، قوله "إننا بالطبع قلقون من الطريقة التي يتشكل فيها المزاج (المعادي لروسيا) في الكابيتول هيل، ونرى في اعتماد القانون المذكور مزاجاً معادياً لروسيا ومحاولة لفرض حلول علينا غير مقبولة من قبلنا بالمطلق. وبالتالي، أرجّح أن يطرح الوزير لافروف على وزير الخارجية الأميركي هذه المسألة".
رد غير مماثل
ويبدو أن الردّ الروسي يأتي بطريقة مغايرة وغير مباشرة؛ فموسكو لا تتخذ عقوبات جوابية بحق الشركات الأميركية، بصرف النظر عن تأثير ذلك، إنما تحاول تعزيز اقتصادها عبر شركاء جدد، في مناطق وأقاليم واعدة. أما الردّ السياسي، فيأتي عبر محاولات موسكو المتواصلة تفكيك نظام القطب الواحد. وذلك ما تقاومه واشنطن بكافة السبل، مانعة تشكل قطب جديد يعيد الوضع الدولي إلى التوازن.


وتفعل موسكو  ذلك عبر مجموعات ومنظمات من نمط "بريكس" و"شنغهاي" و"الاتحاد الأوراسي". ولا يخفى على واشنطن الطابع السياسي للقضايا التي تشتغل عليها هذه المجموعات. بالتوازي مع ذلك، تحاول موسكو التخفيف من دور الدولار بوصفه أداة هيمنة أميركية. وإذا ما نجحت موسكو في مساعيها في الانتقال إلى تبادل العملات المحلية في العمليات المالية والتجارية مع شركائها بدل العملة الأميركية، سيتحول هؤلاء إلى حفاري قبور للهيمنة الأميركية وسلطة الدولار.

تجدر الإشارة في هذا السياق إلى ما جاء في كلمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأخيرة أمام الجمعية الفيدرالية الروسية، فقد قال: "لن نمضي في طريق العزلة الذاتية وكراهية الأجانب، والشك، والبحث عن أعداء. إن ذلك كله مظاهر ضعف، ونحن أقوياء وواثقون. سوف نوسع وجودنا في تلك المناطق التي تشهد زخماً في عمليات التكامل، والتي لا تخلط السياسة بالاقتصاد، إنما على العكس، تزيل الحواجز من أمام التجارة وتبادل التكنولوجيا والاستثمارات، نحو حرية تنقّل الناس".
وفي هذا الإطار، جاءت زيارة بوتين الأخيرة إلى الصين، والتي سبقتها عقود غاز مديدة بمئات مليارات الدولار، وتعزيز التعاون في مجالات مختلفة بما فيها العسكرية ومسائل الأمن القومي. كما جاءت زيارته إلى أنقرة، حيث قام الرئيس الروسي بنقلة غير متوقعة معلناً عن إيقاف العمل بخط السيل الجنوبي لنقل الغاز نحو أوروبا وتحويله نحو تركيا، إضافة إلى التعاون الكبير مع أنقرة في مجال الطاقة النووية. إضافة إلى زيارة سيد الكرملين إلى الهند. وهكذا، خطوة بعد أخرى، تؤسس روسيا لركائز تعزز قدرتها على مقاومة الضغوط الأميركية الاقتصادية والسياسية، بالتوازي مع بحثها المستمر عن مصالح لنفسها وللآخرين في عالم لا يخضع لمزاج البيت الأبيض.

حضور لافت للقرم في الهند

في زياته الأخيرة للهند، قام بوتين بنقلة سياسية غير متوقعة، إذ أحضر معه رئيس القرم سيرجي أكسيونوف. ولا تخفى الرسالة الموجهة إلى واشنطن والغرب الأطلسي عموماً من هذا الحضور. علماً بأن أكسيونوف وقع في نيودلهي مذكرة تعاون بين قيادة جمهورية القرم ومنظمة "الشراكة بين الهند وشبه جزيرة القرم"، التي تضم ممثلين عن دوائر رجال الأعمال في الهند. وفي الخلاصة، لا يستبعد أن يؤدي استقبال نيودلهي لرئيس القرم وتوقيع اتفاقات مع شبه الجزيرة، التي انضمت إلى روسيا ربيع العام الجاري، إلى فتور في العلاقات بين الولايات المتحدة والهند، في حين تنتظر الأخيرة زيارة الرئيس باراك أوباما في يناير/كانون الثاني المقبل، كضيف خاص لاحتفالاتها بيوم الجمهورية.


وهكذا، يكون الكرملين قد وجه بمساعدة الإدارة الهندية رسالة خاصة لواشنطن مفادها بأن احتكار العلاقات بالبلدان، اقتصادياً وسياسياً، بات من الماضي، وأن حصار دولة كبيرة وذات مقدرات كروسيا أمر غير متاح، وأن دولاً كالهند تبحث عن مصالحها بالدرجة الأولى، فيما الأخيرة تعرف كيف تستغل المواجهة الأميركية الروسية لانتزاع الفائدة القومية.

وبالطبع، لم يكن وجود أكسيونوف في الوفد الروسي الهدف الوحيد الذي سجله الكرملين في مرمى واشنطن، فخلال المباحثات بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، تم التوقيع على حزمة من الوثائق والاتفاقات، بما فيها توريد معدات روسية لمشروع "كودانكولام" النووي لتوليد الطاقة الكهربائية، وبرنامج لتوسيع التعاون في قطاع النفط والغاز، ووثيقة بشأن تعزيز التعاون في مجال الطاقة النووية، وبروتوكول حول المشاورات بين وزارتي الشؤون الخارجية حتى عام 2016، ومعاهدة على تدريب الجنود الهنود في مؤسسات وزارة الدفاع الروسية.

نحو "شنغهاي"

وفي سياق المحاولات الروسية لتنسيق سياسات التحرر من الهيمنة الأميركية، نقلت وكالة "ريا نوفوستي" في الثاني عشر من ديسمبر/كانون الأول الجاري أن بلدان منظمة "شنغهاي للتعاون" سيبحثون إمكانية تحقيق المزيد من تطوير العلاقات الاقتصادية بينهم في اجتماعهم في أستانا، عاصمة كازاخستان، يومي 14 و15 ديسمبر/كانون الأول الجاري، على الرغم من أن تأسيس منظمة "شنغهاي" تم لضمان الأمن وتعزيز الثقة والتعاون في المجال العسكري بين الدول الأعضاء. ونقلت الوكالة عن كبير الباحثين في معهد الشرق الأقصى التابع لأكاديمية العلوم الروسية، فلاديمير بيتروفكسي، قوله إن "بلدان منظمة شنغهاي، تحاول الوصول إلى انسجام في تنسيق التعاون الأمني والتجاري الاقتصادي فيما بينها. وهذه مهمة ليست بسيطة، لأن مصالح الدول الأعضاء مختلفة ومقارباتها لحل المشاكل متباينة".

ووفقاً لرأيه، فإنه وبصرف النظر عن محاولات الغرب خلق تضارب مصطنع بين مصالح الدول الأعضاء، الصين وروسيا مثلاً، فإن "الحديث يدور عن تكامل في العلاقات. وهذه عملية معقدة من تنسيق السياسات والمصالح".     

وهكذا، وبما أن موسكو لا تروّج في علاقاتها مع شركائها الآسيويين وسواهم لأي أيديولوجيا خارج المصالح المشتركة، الاقتصادية بالدرجة الأولى، خلافاً لواشنطن التي تصنف الدول إلى أعداء وأصدقاء، ودول خير وشر، فإن الكرملين يمكنه أن يحقق، بصورة غير مباشرة، نتائج طيبة في تشكيل تحالفات حول فكرة أن العالم الوحيد القطب مدمر للعلاقات الدولية وضار بمصالح الشعوب، ويجب تفكيكه، وأن قوة الولايات المتحدة الاقتصادية والعسكرية غير كافية للقول بمشروعية سياساتها، وإنها تدفع عبر تدخلها في شؤون العالم أجمع وسياسات الدول الداخلية الآخرين لامتلاك أسباب القوة. وفي هذا الإطار، يأتي ردّ الكرملين الذي تشتغل عليه المؤسسات بدأب يومي على عقوبات واشنطن.
المساهمون