مع هذا العام، يكون قد مرّ عقدٌ كامل على غياب روز غريّب (1909 - 2006)، رائدة النقد الجمالي في الثقافة العربية، والذي لم يجد له مكاناً حتى بين مقاعد المتفرّجين طيلة 82 عاماً مضت، أي منذ أن أصدرت الطبعة الأولى من كتابها "النقد الجمالي وأثره في النقد العربي" عام 1934.
ظل المقعد غائباً حتى بعد أن قدّم الشاعر والباحث رضوان جميل الشهّال كتابه "في الشعر والفن والجمال" عام 1962، واقترح فيه توزيعاً جمالياً للبيت الشعري التقليدي على بضعة أسطر، تناغماً مع ما أسماه تدفّقات طاقة الصور الشعرية. وحتى بعد أن عاد كتاب غريّب إلى النور في طبعة جديدة عام 1983.
لم يكن غياب النقد الجمالي، أي التعمّق في كيفية القول، كيفية التشكيل، كيفية البناء.. إلخ، بسبب طغيان أبحاث نقدية انشغلت بما يُقال، ومعنى ما يُقال، جرياً على العادة النقدية الموروثة فقط، بل تضافرت على ترسيخ الغياب أسبابٌ أخرى، أكثرها أهمية هجر وتهجير الفلسفة وعلم النفس وإقصاء كتبهما عن المحيط الثقافي، وتحويل أشكال الفن إلى جزر متنائية لا يصل بعضها ببعض مفهومٌ واحد للفن، يأخذ في اعتباره أنها كلها ترجع إلى أساس واحد مهما اختلفت بين تشكيل وشعر ورواية وموسيقى ومعمار.. وما هنالك من صيغ تعبيرية أخرى.
في ذكرى هذه الرائدة، ما يستحق العودة إليه، أي العودة إلى فصول كتابها التي تبدأ بسؤال "كيف ندرس الجمال؟"، ثم تتدرّج باحثةً عن ميزات الفنون الجميلة المشتركة، والتعمّق في جلاء العلاقة بين الفن والطبيعة، وصولاً إلى تلمّس علامات الجمال، والوحدة مع التنويع، وتوافق الأجزاء، والتناسب، والتدرّج والتطوّر والتكرار، وعلامات أخرى يلمسها الباحث في أكثر من شكل فنّي، يلمسها في التمثال والقصيدة والرواية واللوحة التشكيلية، بل وحتى في المشهد الطبيعي وخلق الكائنات. فتمنح تلمّساته وعيه أفقاً أرحب مما اعتاده التقليدي، فينفتح على موضوعات متداوَلة، ولكن من زاوية نظر مختلفة غير شائعة؛ ويرى وظائف الفن وعناصره (المعنى والقالب والعاطفة والإيحاء) وشخصية الفنان في ضوء جديد.
ولأن الشعر أهم الفنون الأدبية التي عرفها العرب كما تقول غريّب، تقدّم في كتابها بحثاً في جماليات الشعر، تتناول فيه الجماليات الشعرية كما تتجسّد في العلاقات بين الموسيقى والتصوير وقوة الإيحاء والغموض والألفاظ والعاطفة والفكرة والموضوع، مستندةً إلى شواهد من الشعر العربي والغربي، وآراء من مصادر أجنبية وعربية، ثم تنتقل إلى النقد الجمالي عند العرب.
وهنا يلفت النظر كشفها عن شذرات تكاد تكون مطموسة في التراث النقدي، تذكّر بما هو شائع الآن على ألسنة نقاد هذه الأيام، مثل الكلام عن الغموض وقيمته الجمالية الذي ينسبه ابن الأثير إلى أبو اسحق الصابئ في تعليله الحاجة إلى الفصل في المعنى، واعتماد اللطف والدقة، على قاعدة أن النفَس لا يمتدُّ في البيت الواحد بأكثر من مقدار عروضه وضربه، وكلاهما قليل. وكل هذا يُعتبر الآن من أساسيات شعر الومضة والتوقيعة، والهايكو الياباني بالطبع، الشعر الذي جعل الإيحاء والإيجاز والتصوير أثمن جمالياته.
تلاحظ الباحثة أن النقّاد العرب عرفوا كثيراً من هذه المبادئ الجمالية التي شاعت عند نقّاد الغرب، قدماء ومحدثين، إلا أن هؤلاء الأخيرين أمعنوا في بحثها وتفصيلها إلى مدىً لم يصل إليه النقّاد العرب، فيضع الفرنسي شارل لالو مثلاً كتاباً كاملاً في "الفن والأخلاق"، في حين تأتي الإشارة إليه عند النقّاد العرب في جملة أو جملتين.
ونلاحظ من جانبنا أمراً لافتاً للنظر في بحثها؛ يتمثّل في انصرافها انصرافاً يكاد يكون غامراً إلى مبحث الصورة، كأداة تحليل وكشف وإيضاح، الصورة الملموسة في المعمار والمنحوتة واللوحة، وليس الصورة/ الكلمات في حالتها المتخيّلة فقط كما يتناولها نقّاد عرب في هذه الأيام، فينشرون كتباً تحمل عناوين مثل الصورة الفنية أو الشعرية وما إلى ذلك، غافلين عن وجود الصور التشكيلية الملموسة، وحتى عن الصور الموسيقية والسينمائية، باحثين عن المعنى دائماً من دون وعي بأن الصورة بحد ذاتها هي التي تثير أحاسيس بالمعنى تختلف بين قارئ/ مشاهد وآخر.
هذا تقليد تابعته جملة النقّاد القدماء، فجعلهم يقرّون بجمال أبيات شعرية شهيرة مثل: "ولمّا قضينا من منى كل حاجة/ ومسّحَ بالأركان من هو ماسحُ/ وشُدّت على حدب المهاري رحالنا/ ولم ينظر الغادي الذي هو رائح/ أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا/ وسالت بأعناق المطيّ الأباطحُ". ولكنهم عجزوا عن إدراك مصدر هذا الجمال وسببه، فقال ابن قتيبة: "حسن لفظه وحلا، فإن أنت فتّشته لم تجد هناك فائدة في المعنى"، وتبعه ابن طباطبا الذي رأى فيه مثلاً على الشعر: "الحسَن اللفظ، الواهي المعنى"، وقال مثل ذلك قدامة بن جعفر وأبو هلال العسكري. وسبب العجز هو غياب مبدأ جمالي مهم هو "التصوير" عن أذهان هؤلاء القدماء، بعد أن اعتادوا على حصر الجمال في اللفظ (الصوت) والمعنى (ماذا يقول الشاعر). والصورة لا تنتمي إلى هذا أو ذاك، بل إلى "كيفية القول".
أعتقد أن من أهمّ إنجازات بحث غريّب في النقد الجمالي، إضافة إلى اعتماد الصورة الملموسة وليس الصورة الكلامية فقط، الانطلاق نقدياً من نظرة شاملة إلى أشكال الفن، وتلمّس العلاقات بينها، الأمر الذي غاب عن ثقافتنا قديماً وما زال يغيب حديثاً. وهذا هو السبب الذي جعل النقد الجمالي بلا مقعد في أوساطنا الثقافية حتى الآن.