23 ديسمبر 2019
رهاب السلام في اليمن
عبد الرزاق الحطامي
خمس سنوات من الحرب، وخمس جولات من مشاورات السلام، وما زالت مخاوف ما بعد انتهاء الصراع هي التي تتحكّم بمسارات الحرب، وتعيق خيارات السلام في اليمن.
الجميع هنا، في اليمن، يتهرّب من استحقاقات السلام ويعيش رهابه، وهو رهابٌ لا يبدو أنه يقتصر على أطراف الصراع وأمراء الحرب الذين لا يعني لهم السلام سوى البدء في تفكيك شبكة مصالحهم، فمع تعدد الأطراف، ودخول وكلاء جدد في السوق، يمتلك تجار الدم قدرةً أكثر على تعميد الوضع، وتأمين شبكة المصالح، من أية عملية تفكيك مقبلة.
يتمركز رهاب السلام لدى الحوثيين في أنهم مجتمع حرب أساساً، والحرب هي الحرفة الوحيدة التي يجيدونها، وهم أكثر المستفيدين من موسمها ومن السوق السوداء. ولذلك جنوحهم إلى السلم أمر مستحيل للغاية، إلا في حال نجح حسم المعركة عسكرياً لصالح الطرف الآخر، أو على الأقل نجح الطرف الآخر في فرض واقع آخر، تطغى سلطة وجوده على سلطة الأمر الواقع في مناطق السيطرة الحوثية.
ولدى الطرف الآخر، متمثلاً في الشرعية والتحالف الداعم لها، مخاوفهما من السلام، ففي وقت سيجد التحالف نفسه ملزماً دولياً وأخلاقياً أمام استحقاقات سلام مكلفة، في إعادة إعمار اليمن والإيفاء بتعهداته. تتخوف الشرعية من أن تفضي أية عملية سلام إلى فرض معادلة سياسية جديدة تؤدي إلى فقدان الشرعية شرعيتها الدستورية، وفرصتها في تمديد عمرها في السلطة، وهي شرعية مستمدة من الحرب والظرف القاهر للبلد الذي تتأجل بموجبه الانتخابات. وكلما طال أمد الحرب، اكتسب أصحاب السلطة الشرعية تاريخ صلاحية إضافياً على العلبة الصدئة.
صحيح أن التحالف، بقيادة السعودية، قد لا يخسر في حالة السلام عُشر ما يخسره في الحرب في مسألة إعمار اليمن. ولكن فاتورة خسائره في الحرب تمنحه امتيازات وجود في العمق السيادي لليمن، وتمديد رجليه على كل منافذ القرار السياسي وحقول الثروات، بشرعية الحرب واستحقاقاتها، وهو يعاني رهاب السلام من هذه الزاوية أيضاً، فمع استتباب السلام يغدو وجوده في اليمن غير مبرّر قانونياً، وتدخلاً سافراً في شأن بلد آخر.
وتتجلى حالات رهاب السلام في أطراف الصراع من خلال دورانهم في مشاورات سلام عقيم
حول حلقة مفرغة، على قاعدة المبعوثين الأمميين: السلام من أجل الحرب.
وفي حين تتكبد اليمن خسائر فادحة في الحرب على كل المستويات، ثمّة من يحصد في الحديقة الخلفية ثماراً يانعات، وهي ثمار أشار إليها المبعوث الأممي الرومانسي، مارتن غريفيث، في إحاطته التلفازية أخيرا لمجلس الأمن على أنها بدأت تؤتي أكلها.
وعلى الصعيد الشعبي، ثمّة أكثر من مليون نازح في مأرب يعيشون رهاب السلام ذاته، فأن تضع الحرب أوزارها فهذا يعني وقوفهم أمام خيارين، كلاهما مر: العودة إلى الديار في مناطق سيطرة الحوثيين الذين قاموا بعمليات تجريف سكاني وعمراني للمدن، عبر سياسات إحلال وخطط استيطان، تصوغ الخريطة الديمغرافية لليمن، وفق أبعاد طائفية وجدران عزل عنصري، فيستبد وجودها ويتموضع في قلب المدن ومحيطها ومفاصل الغلبة في الوظيفة الرسمية والأحياء السكنية. ويعني هذا الخيار للنازحين العودة إلى الحياة أو الموت أقلية تحت حد السكين، مع الفرز الأيديولوجي والتأطير العرقي. الخيار الثاني هو بقاء النازحين في مأرب التي تجمعت فيها أيدي سبأ، وظلت ملاذاً آمناً لكل اليمنيين الفارّين إليها من بطش الحوثيين ورعب الحرب. ولكن المدينة الفاضلة تعيش وضعاً استثنائياً ومؤقتاً محكوماً بصرامة العرف القبلي، ومواثيق تعني قبلياً حالة طوارئ اجتماعية عامة.
وهذا العقد الاجتماعي الناظم للحياة الحالية في مأرب هو قانون مؤقت بتاريخ صلاحية، تحدّد على ضوء العرف القبلي وقوانينه في الحرب، فيما عرف باجتماعات مطارح مأرب، حيث اتفقت المكونات القبلية كافة على مواجهة الحوثيين بيد رجل واحد، وترحيل كل خلافات القبائل البينية وقضايا الثأر والتقاطعات والصراع على الأراضي.
قال أحد مشايخ مأرب ووجهائها القبليين، من رؤوس القوم وعرّابي اتفاقية مطارح مأرب، في برنامج جيران العرش التلفزيوني، إن الاتفاقية تحدد تاريخ سريان مفعولها بمقدار سنوات الحرب، وقد يعود الثأر والصراع القبلي البيني، إذا انتهت الحرب. .. ولا يعني هذا الخيار للنازحين سوى أن يعيشوا رهاب السلام، وأن يحزموا أمتعتهم للرحيل إلى المجهول، مع أول وزر تضعه الحرب أو يبدأ به السلام، وطوبى للحرب.
يتمركز رهاب السلام لدى الحوثيين في أنهم مجتمع حرب أساساً، والحرب هي الحرفة الوحيدة التي يجيدونها، وهم أكثر المستفيدين من موسمها ومن السوق السوداء. ولذلك جنوحهم إلى السلم أمر مستحيل للغاية، إلا في حال نجح حسم المعركة عسكرياً لصالح الطرف الآخر، أو على الأقل نجح الطرف الآخر في فرض واقع آخر، تطغى سلطة وجوده على سلطة الأمر الواقع في مناطق السيطرة الحوثية.
ولدى الطرف الآخر، متمثلاً في الشرعية والتحالف الداعم لها، مخاوفهما من السلام، ففي وقت سيجد التحالف نفسه ملزماً دولياً وأخلاقياً أمام استحقاقات سلام مكلفة، في إعادة إعمار اليمن والإيفاء بتعهداته. تتخوف الشرعية من أن تفضي أية عملية سلام إلى فرض معادلة سياسية جديدة تؤدي إلى فقدان الشرعية شرعيتها الدستورية، وفرصتها في تمديد عمرها في السلطة، وهي شرعية مستمدة من الحرب والظرف القاهر للبلد الذي تتأجل بموجبه الانتخابات. وكلما طال أمد الحرب، اكتسب أصحاب السلطة الشرعية تاريخ صلاحية إضافياً على العلبة الصدئة.
صحيح أن التحالف، بقيادة السعودية، قد لا يخسر في حالة السلام عُشر ما يخسره في الحرب في مسألة إعمار اليمن. ولكن فاتورة خسائره في الحرب تمنحه امتيازات وجود في العمق السيادي لليمن، وتمديد رجليه على كل منافذ القرار السياسي وحقول الثروات، بشرعية الحرب واستحقاقاتها، وهو يعاني رهاب السلام من هذه الزاوية أيضاً، فمع استتباب السلام يغدو وجوده في اليمن غير مبرّر قانونياً، وتدخلاً سافراً في شأن بلد آخر.
وتتجلى حالات رهاب السلام في أطراف الصراع من خلال دورانهم في مشاورات سلام عقيم
وفي حين تتكبد اليمن خسائر فادحة في الحرب على كل المستويات، ثمّة من يحصد في الحديقة الخلفية ثماراً يانعات، وهي ثمار أشار إليها المبعوث الأممي الرومانسي، مارتن غريفيث، في إحاطته التلفازية أخيرا لمجلس الأمن على أنها بدأت تؤتي أكلها.
وعلى الصعيد الشعبي، ثمّة أكثر من مليون نازح في مأرب يعيشون رهاب السلام ذاته، فأن تضع الحرب أوزارها فهذا يعني وقوفهم أمام خيارين، كلاهما مر: العودة إلى الديار في مناطق سيطرة الحوثيين الذين قاموا بعمليات تجريف سكاني وعمراني للمدن، عبر سياسات إحلال وخطط استيطان، تصوغ الخريطة الديمغرافية لليمن، وفق أبعاد طائفية وجدران عزل عنصري، فيستبد وجودها ويتموضع في قلب المدن ومحيطها ومفاصل الغلبة في الوظيفة الرسمية والأحياء السكنية. ويعني هذا الخيار للنازحين العودة إلى الحياة أو الموت أقلية تحت حد السكين، مع الفرز الأيديولوجي والتأطير العرقي. الخيار الثاني هو بقاء النازحين في مأرب التي تجمعت فيها أيدي سبأ، وظلت ملاذاً آمناً لكل اليمنيين الفارّين إليها من بطش الحوثيين ورعب الحرب. ولكن المدينة الفاضلة تعيش وضعاً استثنائياً ومؤقتاً محكوماً بصرامة العرف القبلي، ومواثيق تعني قبلياً حالة طوارئ اجتماعية عامة.
وهذا العقد الاجتماعي الناظم للحياة الحالية في مأرب هو قانون مؤقت بتاريخ صلاحية، تحدّد على ضوء العرف القبلي وقوانينه في الحرب، فيما عرف باجتماعات مطارح مأرب، حيث اتفقت المكونات القبلية كافة على مواجهة الحوثيين بيد رجل واحد، وترحيل كل خلافات القبائل البينية وقضايا الثأر والتقاطعات والصراع على الأراضي.
قال أحد مشايخ مأرب ووجهائها القبليين، من رؤوس القوم وعرّابي اتفاقية مطارح مأرب، في برنامج جيران العرش التلفزيوني، إن الاتفاقية تحدد تاريخ سريان مفعولها بمقدار سنوات الحرب، وقد يعود الثأر والصراع القبلي البيني، إذا انتهت الحرب. .. ولا يعني هذا الخيار للنازحين سوى أن يعيشوا رهاب السلام، وأن يحزموا أمتعتهم للرحيل إلى المجهول، مع أول وزر تضعه الحرب أو يبدأ به السلام، وطوبى للحرب.
مقالات أخرى
12 ديسمبر 2019