رفع تكاليف الاحتلال

11 سبتمبر 2016
(بيت لحم، 2014، تصوير: أحمد غرابلي)
+ الخط -

بينما تعارض شعوب المنطقة التطبيع مع إسرائيل (9% فقط يؤيدون الاعتراف بإسرائيل حسب إحصائية حديثة) تتوالى وفود التطبيع في عقد لقاءاتها السرية والعلنية مع إسرائيل في حين تتراجع إسرائيل عالمياً وتزداد عزلتها.

حركات المقاطعة وعلى رأسها حركة مقاطعة الاحتلال الإسرائيلي والمتربحين منه وسحب الاستثمارات منهم وفرض العقوبات عليهم (BDS) حققت نجاحات كبيرة الأعوام الماضية تستحق أن نستعرض بعضاً منها. ومن المفيد أن نستعرضها وفي بالنا أن وفد أنور عشقي تضمن تجاراً من منطقة مكة المكرمة التقوا بحكومة العدو وقياداتها الإرهابية المتطرفة.

عام 2014 صوت الاتحاد الطلابي الوطني البريطاني لصالح تبني معايير حركة BDS وفي نفس الوقت صوت اتحاد طلابي كندي يمثل 300 ألف طالب بالإجماع لتبني الحركة أيضاً.

أتت تلك الضربتان المتتاليتان كجزء من عدد كبير من الجامعات والهيئات الأكاديمية التي دخلت في إطار المقاطعة أيضاً مثل جامعة إكستر ومثل اتحاد طلاب الدراسات العليا في جامعة تورنتو وكذلك اتحاد طلاب جامعة كاليفورنيا وأيضاً أكبر اتحاد للمدرسين في أوروبا.

هذه الجهود تشبه الجهود السابقة لعزل نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا والتي ساهمت في إسقاطه في نهاية المطاف، وهي رد بليغ أيضاً على الزعم الساذج بأن الأكاديميا والتعليم ليس لهما علاقة بالسياسة. ومن المثير أن ستيفن هوكينغ، أحد آبرز وأهم العلماء المعاصرين، انضم للمقاطعة الأكاديمية لإسرائيل ومعه أكثر من 2700 أكاديمي من بريطانيا وبلجيكا وجنوب أفريقيا وإسبانيا.

وحتى في الفن تحدث فنانون غربيون علناً ضد إسرائيل بل وبعضهم اتهمها بالإبادة الجماعية مثل الممثلة بينولوبي كروز وزوجها خافير بارديم رغم الضرر الكبير الذي قد يلحق بأعمالهما، وقام فنانون آخرون بتوقيع رسالة تطالب بحظر تسليح إسرائيل.

الكثيرون غيرهم أعلنوا مقاطعتهم للفعاليات الفنية في إسرائيل، منهم الفنانة شنيد أوكونور ومنهم روجر ووترز أحد أيقونات الروك والذي كان من أبرز الأصوات المنادية مراراً لمقاطعة إسرائيل. يوجد لدينا اليوم المئات من الفنانيين الغربيين الملتزمين بمقاطعة إسرائيل من بينهم جي كي رولينغ مؤلفة سلسلة روايات هاري بوتر.

وفي حين وقع بعض مشايخ المسلمين في فخ التطبيع مثل الشيخ الطنطاوي شيخ الأزهر السابق حين صافح مجرم الحرب شمعون بيريز، وحسن شلغومي الذي زار إسرائيل بعد محرقة غزة الأخيرة ليلقي خطاباً ضد الإخوان المسلمين، ومثل الشيخ فيصل عبد الرؤوف الذي قام مع آخرين بمطالبة المقاومة الفلسطينية بإطلاق سراح الإرهابي جلعاد شاليط مجاناً (وبعد مطالبتهم التعيسة بأقل من شهرين نجحت المقاومة في إطلاق سراح أكثر من ألف أسير من سجون العدو في مقابل الجندي شاليط) ومثل وفد من أئمة فرنسا الذي زار إسرائيل والتقى بمجرم الحرب شمعون بيريز وأثناء الزيارة بدأت إسرئيل حربها الثانية على غزة.

في الوقت الذي تقع فيه هذه الأمثلة التطبيعية قامت الكنيسة المشيخية في أميركا بتبني نداء المقاطعة وباعت حصتها في كاتربلر وموتورولا وشركة HP، والثلاث تعد من أبرز الشركات المتورطة في والمتربحة من جرائم الاحتلال.

الكنيسة الميثودية في أميركا ألغت استثمارها في بنكين إسرائيليين أيضاً وألغت علاقاتها بشركة G4S الأمنية سيئة السمعة والمتورطة في الجرائم بحق الأسرى والتي تعمل للأسف في بعض الدول العربية وداخل مؤسسات حساسة (عدة حملات عربية استهدفت الشركة وأعلنت عدة نجاحات في الأردن والكويت).

إحدى تجمعات كنيسة المسيح المتحدة شهدت تصويتاً بأكثر من 500 صوت لتبني معايير المقاطعة مقابل 86 صوتاً رافضاً فقط. كنيسة كندا المتحدة تبنت المقاطعة عام 2012 وهي من أكبر الكنائس الكندية ويقدر عدد أعضائها أحياناً بنصف مليون عضو.

ديزموند توتو كبير الأساقفة في جنوب أفريقيا وأحد أشهر مناضليها يعد أيضاً من أبرز الشخصيات العالمية المتحدثة عن حقوق الفلسطينيين والمنادية بمقاطعة إسرائيل. جهود المقاطعة حققت نجاحات ضخمة منها أن اضطرت شركة ألستوم مثلاً لإلغاء كل أو أغلب تعاملاتها مع اسرائيل خصوصاً بعدما خسرت عقداً ضخماً لقطار الحرمين ومثلها شركة فيوليا.

وليست فقط حركات المقاطعة الشعبية، هناك أحزاب سياسية متعاطفة مع القضية الفلسطينية مثل حزب السين فين في ايرلندا وأكثر من 60 عضواً في البرلمان الأوروبي (بعد صدور مطالب من أكثر من 300 مجموعة أوروبية بالمقاطعة)، ومؤخراً في كندا حيث انضم حزب الخضر لقائمة الأحزاب التي تتبنى حركة BDS.

المثير أكثر أن دولاً وحكومات حول العالم صارت تتخذ إجراءات ضد إسرائيل (ولم تستثمر الدول العربية في ذلك) بعضها كان أجرأ من كل خطوات المطبعين العرب مثل قيام دول لاتينية باستدعاء سفرائها واتخاذ إجراءات دبلوماسية ضد إسرائيل بسبب العدوان على غزة (وهو ما لم تفعله مصر والأردن) وهي فنزويلا والبرازيل والسلفادور والبيرو وتشيلي والإكوادور وبوليفيا التي أعلنت إسرائيل دولة إرهابية وألغت اتفاقية الفيزا القائمة بين البلدين منذ 1972. هذه الدول اللاتينية في أقصى الأرض، وليست عرباً ولا مسلمين.

بل حتى الحلفاء التقليديون لإسرائيل اضطروا لأخذ خطوات ضد إسرائيل في السنوات الأخيرة مثل تجميد إسبانيا لمبيعات السلاح لإسرائيل وقيام بريطانيا بمراجعة لها بسبب حرب غزة.

وحتى قضية اغتيال محمود المبحوح (الجريمة التي تمت على أرض خليجية) أدت لعدة إجراءات غربية ضد إسرائيل بسبب تزويرها للجوازات وتم طرد دبلوماسيين إسرائيليين من ايرلندا واستراليا وبريطانيا، وكان هذا التصرف – على رمزيته – أقوى من الخطوات التي اتخذها مجلس التعاون الخليجي نفسه في الرد على العدوان الواضح على السيادة الخليجية، بل واستمر التطبيع الخليجي بشكل كبير (للتفاصيل راجع هذا التقرير) ولم يتأثر بالعملية الإرهابية.

هذا كان استعراضاً لجزء فقط من نجاحات المقاطعة التي هي جزء من فن المقاومة: رفع كلفة الاحتلال على المحتل وداعميه إلى أن يصبح الاستثمار فيه غير مجدٍ.

حرب غزة الأخيرة كانت مثالاً لذلك حيث كلفت إسرائيل الكثير من ترسانتها المتطورة والباهظة لصد أسلحة المقاومة المنخفضة التكلفة كالصواريخ محلية الصنع والطائرات بدون طيار، بل ورغم ضعف إمكانيات المقاومة احتاجت إسرائيل لأميركا فاجتمع مجلس الشيوخ وأقر دعماً عاجلاً لقبة إسرائيل الحديدية بـ225 مليون دولار كما قامت أميركا بفتح مخازن سلاح أميركية داخل إسرائيل للتزود بالذخيرة التي نقصت عليهم (واحدة من عدة جرائم حرب لإدارة أوباما). وسيأتي يوم يصبح فيه المشروع الصهيوني أغلى من قدرة الممولين على السداد.

هذا الاستعراض يوضح محورية الحاجة لزيادة التعاون بين المؤمنين بعدالة القضية الفلسطينية حول العالم، كما يوضح الأهمية الملحة لزيادة هامش الحريات السياسية في العالم العربي أيضاً، فوجود حياة سياسية صحيحة بما فيها من أحزاب ونقابات واتحادات طلابية وحياة برلمانية ومؤسسات مجتمع مدني مستقلة وصحافة حرة يتيح المجال لوقف الكثير من الظواهر السلبية، والتطبيع أبرزها خصوصاً مع وجود نشطاء مثابرين في عدة دول إسلامية وعربية كالكويت مثلاً والتي تعتبر ذات تجربة رائدة في المقاطعة.

(كاتب سعودي/ جدّة)