تعرّض الكاتب الجزائريّ محمد علاوة حاجي للسبّ والشتم على مواقع التواصل الاجتماعي، بسببِ تلفّظ شخوصِ روايته "في رواية أُخرى" بعبارات اعتبرها "قرّاءٌ" منافيّةً للآداب، في سلوكٍ بات يتكرّر في أكثر من بلدٍ عربيّ.
صدرت الرواية في عام 2013 وتُقدّم في سردٍ رفيعٍ احتمالات مختلفةً للوقائع والمصائر والشّخوص بنفس الطريقة التي سيعتمدها، في ما بعد، الروائي بول أوستر في رواية "4321" التي صدرت في 2018 واعتبرها نقادٌ من أهمّ أعماله.
لكنّ نصيبَ من كتب بالعربيّة سيكون التجريح مقابل المجد للأميركيّ، ولسنا هنا في موقعِ المقارنة بل في معاينةٍ لضررٍ ناجمٍ عن مساءلةِ الخيال بأحكام الواقع في مجتمعاتٍ باتت تفتقد إلى أدوات تلقّي الفنون والآداب.
والظاهرة ليست جديدة، حيث كثيراً ما عانى الكتّابُ من "سُوءِ الفهم"، بدايةً من كاتب ياسين الذي تمّ تفسيرُ عنوان مسرحيّته "محمد خُذ حقيبتك" على أنّه دعوةٌ لطردِ المسلمين من الديار في حين أنّ المسرحيّة تتناولُ موضوع الهجرة، والغريب في الأمر أنّ المهاجرَ في النّص تحوّل وقتها إلى نبيٍّ على الألسنةِ وصفحاتِ الجرائدِ.
وكذلك شأن الروائيّ رشيد بوجدرة، الذي يكفي اليوم أن تكتب اسمه أو تنشر صورته على موقعٍ أو منصّةٍ حتى تنهال الشتائمُ والعباراتُ الجارحة في تصرّفٍ مشؤومٍ مع أبرز كاتبٍ في الجزائر على قيْدِ الحياة، وفوق ذلك فإنّ الكاتبَ الذي استباحت الجماعاتُ الإرهابيّة دمه في تسعينيات القرنِ الماضي ودفعته إلى العيشِ متخفّياً ومتنكّراً، أصبح اليوم هدفاً للغوغاءِ على شبكاتِ التواصلِ الاجتماعيّ وفي الشارعِ أيضاً بعد أن كفّرته قناتان تلفزيونيتان في برنامجَي إثارةٍ قبل نحو سنتين.
لا يواجه الكاتب الجزائري والعربي أيضاً حملات التسفيه فقط، ولا يعاني من سوءِ توزيع الكتاب وضعف المقروئيّة فحسب، بل يصبح مهدَّداً بسببِ تحميلِ الأدب فوق ما يحتمل، وقد سقط كتّاب في الجزائر بالرصاص بعد حملات تشويهٍ، ونذكر هنا الكاتب بختي بن عودة (1961 - 1995) الذي دلّت صحيفةٌ القتلةَ عليه بحملةٍ استرشدوا بها في الجريمة التي لم يكن يعوزهم الحافز لارتكابها.
ثمّة ديكتاتوريّة اجتماعيّة ذات طابع رعاعي تخنقُ الكتّابَ والفنانين، باسم الدينِ والتاريخِ والفضيلةِ، وتجد صداها في وسائل إعلامٍ وربما أسهم فيها مشتغلون في الحقل الثقافي، وقد اشتكى الكاتب محمد علاوة حاجي في منشور له من ذلك بالقول "إنّ عدداً غير قليلٍ مِن أصحاب تلك المنشورات والتعليقات والرسائل محسوبُون على الثقافة والكتابة والأدب".
ولم تفلت السينما من هذا المصير، فقد واجهت أعمال سينمائية حملات شديدة لا لشيء سوى لأنّ الفيلم غير مطابقٍ للوقائع التاريخيّة أو لاحتوائه على لقطاتٍ حميمةٍ أو لشرب أبطاله الخمر أو لتلك التّهم الجاهزة عن تشويه صورةِ المجتمع والبلد.
وقد يكون تخريبُ التماثيل في الساحات العامّة، التعبير الأقسى على سوءِ تلقّي الفنّ، ومن آخر تلك الاعتداءات المحفورة في الذاكرة إقدام رجلٍ قيل إنّه مختلٌّ على تشويهِ تمثال عين الفوارة بمدينة سطيف شرقي الجزائر، وأخطر من الاعتداءِ التعاليق على الحدث على شبكات التواصل، حيث حظي تشويه صدر ووجه المرأة العارية في التمثال بتأييد ومباركة، في حين تمّ استهجان مسعى ترميم التمثال، وكان بعض أهلِ الكتابة والإعلامِ ضمن أصوات الغوغاء التي نادت برحيل "المرأة العارية" من الفضاء العام.
والغريب في الأمر أنّ الأرض التي أنبتت كتّاباً وفنانين بلغوا العالميّة، هي الأرض ذاتها التي تُنبت أعداء الفنّ والجمال، تحت تأثير ثقافة "دينيّة" تلقّنها القنوات التلفزيونيّة ويجود بها نجوم الفتوى.
والظاهرة لا تخصّ الجزائر وحدها، ويبدو أنّ العدوى انتقلت من الشّرق، مع صعود التيّارات المتشددة وتدهورِ مستوى التعليم، فلا ننسى أنّ السكّين الذي أصاب رقبة نجيب محفوظ كان الفصل الأخير في حملةٍ استهدفت الكاتب، ولا ننسى أنّ وزير ثقافةٍ سابقاً في بلدٍ عربيٍّ وهو فنّان تشكيليّ، نصح كتّاب بلاده بعدما تزايدت حملات التكفير والملاحقات القضائيّة ضدّهم، بالذهاب إلى أوروبا "ليكتبوا على راحتهم"!
صحيح أنّ التعليقات التي استهدفت حاجي تبدو صادمة ودفعته إلى التعبير العلني عن "غصّة"، لكن حسبه أنّ روايته البديعة تجيب عن الظاهرة في نهايتها حين يصوّر لنا البطل وهو يهمّ بالقفز من الطابق السادس، وجمع غفير يرقب المشهد، قبل أن يخضعنا إلى لعبةِ احتمالاته المذهلة: إما أنّ البطل فوق، وجوقة المجانين تحت، وإما أنّه تحت، يدخّن ويرقب ببرود مجموعة مجانين يهدّدون بالقفز من الطابق السادس.
أي أنّ الراوي "السيكوباتي" قد يكون ضحيّة جنونٍ عامٍّ يصعب التفريق فيه بين الخلاص والانتحار، وهو حال مجتمعات تسيء تقدير مبدعيها الحقيقيين، أيضاً، سواء بعدم الانتباه إلى أعمالهم، أو بالتجاسر عليهم على نحو بشع كما حدث مع صاحب "في رواية أُخرى".
* كاتب من الجزائر
ـــــــــــــــــــــــــــ
في طبعة أُخرى
صدرت "في روايةٍ أُخرى" لمحمد علاوة حاجي (1983) لأوّل مرّة عن "الوكالة الوطنية للنشر والإشهار" التابعة لوزارة الاتصال في 2013، وهي السنة التي حازت فيها "جائزة علي معاشي للمبدعين الشباب"، ثمّ صدرت منها طبعةٌ ثانية عن "المؤسّسة الوطنية للفنون المطبعية" التابعة لوزارة الثقافة، دون علم مؤلّفها الذي أشار في تدوينة على فيسبوك إلى أنه اكتشف الطبعة مؤخّراً ضمن "حملة الشتم" التي يتعرّض إليها.