يقف رشيد بوطيب في كتابه "نقد الحرية .. مدخل إلى فلسفة إيمانويل ليفيناس" (منشورات الاختلاف، 2019) على اللحظة التفكيكية داخل الفكر الفلسفي لـ إمانويل ليفيناس (1906- 1995)، والتي تتمظهرعبر نقد التصوّرات الفلسفية عن الآخر، وخاصة داخل فينومينولوجيا هوسرل، والأنطولوجيا الأساسية لهايدغر، ووجودية سارتر، فالنقد الليفيناسي للحرية يجد تحققه في سياق السؤال عن الآخر، حيث يتمظهر الآخر - حسب ليفيناس - في الإيتيقا فقط.
ينظر بوطيب - الباحث المغربي وأستاذ الفلسفة - إلى إيتيقا لفيناس باعتبارها "إيتيقا للضعف"، فنقد ليفيناس للحرية، هو بالأساس نقد لها "كاكتفاء ذاتي"، حيث إن الذات لن تجد تحققها، إلا في ما وراء الحرية أو الهوية، أو في ما وراء الذات، وهو أيضاً نقد للعقل، أو بالأحرى للفلسفة "التي لا تعني أكثر من سلطة الأنا على الآخر أو سلطة التجريد". إن ليفيناس يدعو عبر ذلك للخروج من الكلّية إلى الآخر ومن فلسفة الذات إلى الغيرية، ففلسفته هي لقاء أكثر منها تفكيراً، إنها إيتيقا "لا تقوم على أفكار قبلية ولا على عقل كوني، بل تتحقق بدءاً في البرانية، أمام الآخر، كجواب ومسؤولية"، ولهذا يقترح بوطيب مفهوم "الإيتيقا المضادة" لوصف المشروع الليفيناسي، لأنه يؤسّس لإيتيقا سابقة على المعايير من جهة وإيتيقا ضد الحرية من جهة ثانية، إنها إيتيقا تنافح عن حرية ضعيفة، حرية تتحمل مسؤولية الآخرين، وواعية بلامشروعيتها.
ينتقد ليفيناس مفهوم "التكوين" عند هوسرل، فتكوين الآخر هو أساس الموضوعية في ذاتية هوسرل المحضة، وهو الذي يستخدم مفهوم "التكوين" - الذي ورثه عن الكانطية الجديدة - لوصف عمل الذاتية كمكوّنة للعالم ومانحة للمعنى، إذ فقط داخل الأنا وانطلاقاً منها يتكوّن معنى العالم والآخر، فهو "لا يوجد في علاقة مع الآخرين بل فوقهم"، إنه أنا مكتف بذاته.
وسيبيّن بوطيب أن الآخر بهذا المعنى يظلّ لاحقاً على الوعي، فالأنا وفقاً لهذا المنطق المفارق تكون الآخرين، ولكن لا تلتقيهم، إن القصدية عاجزة عن تجربة الآخر، أو لقائه، وهي تجعل منه موضوعاً للمعرفة، كما أن غياب "الأصلية المتزامنة" في تجربة الآخر عند هوسرل يجعل الآخر مجرد انعكاس للذات، ويسقطنا في نظرة تشييئية له، تطلب السيطرة و ليس العلاقة، لذلك سينافح ليفيناس عن إيتيقا تستضيف الآخر، وتتجاوز "التكوين الإبستيمولوجي إلى اللقاء الإيتقي، ومن الذات كأصل المعنى إلى ذات تستضيف الآخر". إن نقد ليفيناس لهوسرل هو نقد للوعي كفعل تكوين، لوعي يطلب الهيمنة، إنه وعي يهدد غيرية الآخر، وعاجز عن استضافة الآخر داخل الأنا.
يدافع ليفيناس في كتابه "الكلّية واللانهائي" عن غيرية متحرّرة من كل سلطة وعنف، فإيتيقاه "ليست بين ذاتية تعبّر عن نفسها في علاقة تبادلية، بل إيتيقا لا تماثلية"، إذ لا ينبغي أن ننسى أن وجه الآخر الذي يؤسس لهذه العلاقة، يتمنع على كل فعل موضعة أو تشييء. فهو ينفلت من كل تحديد، هو الأثر الذي لا يفتأ يذكرني بمسؤوليتي المطلقة اتجاه الآخر، وهو في لغة ليفيناس "مقاومة إيتيقية".
ستعرف الفينومينولوجيا مع هايدغر منعطفاً هيرمينوطيقياً، لتمتلك "طابعاً مضاداً للتفكير"، فهايدغر يرفض الفصل الترنسندتالي للأنا المحضة عن الأنا الانساني، كما أن فعل القصدية معه لن يظل فعلاً نظرياً محضاً، بل سيرتبط معه بمجال "التجربة قبل-النظري"، إننا مع هايدغر سنتحدث عن هيرمينوطيقا لليومي، هو الذي يفهم الأنطولوجيا الأساسية كتفكيك لفلسفة الذات، فالدازين Dasein الهايدغيري يشترط "الكينونة بالمعية"، إنه مرتبط بالآخرين، ومتجذر في العالم، فالذاتية ترتبط دوماً بالعالم، فنحن "نجرب أنفسنا أصلياً، كمقذوفية في العالم" فجوهر الدازين هو الوجود، أو بالأحرى الكينونة ـ في ـ العالم، لكن على الرغم من هذا لن يرى ليفيناس في المنعطف الهيرمينوطيقي لهايدغر، سوى ترجمة للغة هوسرل الفينومينولوجية الترنسندنتالية إلى لغة أنطولوجية، ونحن لا نزال أمام المنطق الأنوي الترنسندنتالي نفسه، فالدازين لا يحقق أصالته، إلا عبر التحرر من سلطة الآخرين أو من "ديكتاتوريةـ الهم"، وهنا يكرر هايدغر "الاختزال الترنسنتدتالي" الذي نجده لدى هوسرل، حتى وإن كان هوسرل يبحث عن الوعي، ويبحث هايدغر عن الأصالة.
لهذا سينتقد ليفيناس "حياد الكينونة تجاه الكائن"، فأولوية الكينونة على الكائنات، تغفل العلاقة الإيتقية مع الآخر، إن كينونة هايدغر مكتفية بذاتها، وموجهه دوماً ضد الآخرين، لذلك سيفهمها ليفيناس كنقيض للإيتيقا، لكونها أنطولوجيا تنظر للحرية "كبنية جوهرية للذات"، هذه الحرية التي لا تطلب في النهاية سوى السيطرة والتحقق البطولي للدازين.
يفضح مفهوم الموت داخل أنطولوجيا هايدغر الطابع الأنوي للدازين، فالموت في تحليل الدازين الذي يقدمه هايدغر في كتابه "الكينونة و الزمان" يُعتبر هوية الكينونة، إنه إمكانية لا يمكن تجاوزها، وما الخضوع لـ"الهُم" سوى هروب من الموت ومن الحياة الأصيلة، لكن حينما يتحدّث هايدغر عن الموت فهو يتحدّث عن موت الدازين الذي هو الأنا، وهذا الموت الأنوي وحده من يمتلك حقيقة أنطولوجية، أما موت الآخر فلا يمتلك أي حمولة وجودية و يظل ثانوياً، وعكس ذلك يرى ليفيناس أن موت الآخر هو الذي يشكل "التحدي الوجودي والإيتيقي الأصيل"، لأن الدلالة الحقيقة للموت تتكشف في موت الآخر، "إن الموت يحدثنا عن الذهاب بلاعودة"، إنه حدث يسائلني ويعبّر عن عجزي، ويقلقل كينونتي، إنه يكشف عن الضعف الذي يخترق الطبيعة الإنسانية.
لا يقدّم ليفيناس في كتابه "الكلية و اللانهائي" حواراً نقدياً مع هوسرل وهايدغر فقط، بل أيضاً مع سارتر، وإن كان ليفيناس يشترك مع سارتر في رفض مفهوم التكوين الهوسرلي، ويدافعان معاً عن علاقة محسوسة بالآخر، إلا أن ليفيناس يقدم نقداً لمفهوم الحرية عند سارتر التي لم تتجاوز في نظره منطق الذات، فالآخر عند سارتر وإن كان ضرورياً لوجودي، وعلاقتي به أنطولوجية، علاقة كينونة بكينونة، لكنها علاقة تبقى محكومة بالصراع، وهنا مربط الاختلاف بين سارتر وليفيناس، إن اللقاء بالآخر كموضوع (النظرة) أو لقاء به كذات (الخجل)، هو أساس النظرية البينذاتية لسارتر، ففي الخجل تتحقق علاقة بيني وبين نفسي لكنها علاقة تشترط الآخرين، إنه شعور يضعني في علاقة مباشرة مع الآخر، لكنها علاقة أفقد فيها حريتي، فنظرة الآخر تحوّلني إلى موضوع، هذه النظرة التي تهدد الذات وتشكل خطراً أكتشف عبرها نفسي، بهذا المعنى يكون الآخر "شرطاً تجريبياً لذاتي"، وفي الوقت نفسه عدواً وجحيماً. يدافع سارتر عن حرية سلبية، فهي تتحقق دائماً ضد الآخرين. في مقابل هذه الحرية يطوّر ليفيناس حرية ضعفية، حرية يفهمها كمسؤولية لانهائية إزاء الآخر.
هكذا ينافح ليفيناس حسب بوطيب عن "ذاتية هي ضيافة، مستغرقة في الآخر وليس في كينونتها، إن نقطة انطلاقها ليس الذات المتماهية مع نفسها، المكتفية بها، والمشدودة إلى الأوتونوميا، إنها ليست بذات متأملة، ولكنها ذات متألمة".