رسالة في كتاب
بعد أن وجدت تيريزا زجاجةً خضراءَ ملقاةً على رمل الشاطئ، وداخل الزجاجة رسالة، تفتحها لتكتشف أنها رسالة حبٍّ موقعة باسم غارت إلى حبيبته، تأخذ تيريزا، الصحفية في مجال الأبحاث الرسالة إلى حيث تعمل، وتطلع عليها زملاءها ورئيس تحرير الصحيفة الذي قرّر نشر الرسالة. تغضب تيريزا بشدة، لأن الرسالة، برأيها، شخصية، والمشاعر والعواطف التي فيها بالغة الخصوصية، وفي نشرها لتكون في متناول الجميع انتهاك صريح لكاتب الرسالة، حتى لو كان مجهولاً.
الفيلم الذي أتحدّث عنه هو "رسالة في زجاجة"، من بطولة كيفن كوستنر وهايدن بانتير وبول نيومان، ومن إخراج لويس ماندوكي. وأنا أشاهد الفيلم، قبل أيام، تذكّرت حادثةً وقعت معي منذ مدة، حين تمكن هاكر من الدخول إلى علبة بريدي في صفحتي على "فيسبوك"، واختار من ضمن الرسائل المرسلة رسائل غرامية لي تبادلتها مع آخرين، ثم اختار الرسائل الجماعية، ونسخ عليها رسائلي الغرامية. هكذا كان الهكر متأكّداً أن عدداً كبيراً من أصدقاء صفحتي سيقرأون رسائلي، قبل أن أنتبه إلى ما يحدُث، وحتى لو انتبهت باكراً، فالرسائل ستبقى موجودةً لدى الآخرين، ولن أتمكّن من محوها. كان الأمر سيئاً لي، ليس لخشيتي مما هو موجود في الرسائل، فلست من النوع الذي يخجل من عواطفه ورغباته، وإنما من فكرة الاستباحة بحد ذاتها، أن يبيح أحدٌ لنفسه الإطلاع على أسرار شخصيةٍ لأحدٍ ما، ثم كشف هذه الأسرار أمام الآخرين، خصوصاً أن ثمة أطرافاً أخرى في الرسائل، فإن كنت أنا مقصودةً لأسبابٍ مختلفة، فلا ذنب للآخرين الذين تبادلت معهم هذه الرسائل، بأن تكون مشاعرهم، أو نزاوتهم، أو رغباتهم، عرضةً للكشف أمام من لا يعرفون، بغض النظر إن كانوا أشخاصاً معروفين وشخصيات عامة، أو لم يكونوا، هذه الحادثة جعلتني، بشكل تلقائي، أمحو كل الرسائل الخاصة التي من هذا النوع، ما أنْ أرسلها إلى أحد، أو ما إن تصل إليّ من أحد، خشية تعرّض صفحتي، أو إيميلي، أو الهاتف الخاص بي، إلى محاولة تهكير جديدة، فأعرض نفسي والآخرين إلى ما لسنا موافقين على التعرّض له، على الرغم من أن من بين الرسائل ما يمكنه أن يكون نصوصاً أدبيةً وإنسانيةً، يمكن لكاتبةٍ أن تنشرها، من دون أي تبعاتٍ شخصية.
عادت لي حكاية التعدّي على أسراري الشخصية، وأنا أتابع النقاش الذي جرى في مواقع التواصل الاجتماعي، وفي الصحافة المكتوبة، بشأن كتاب "رسائل أنسي الحاج إلى غادة السمان"، والذي نشرته غادة السمان، أخيراً، بعد مرور عامين على رحيل أنسي الحاج، وبعد مرور سنواتٍ على الضجّة التي أثارها كتابها السابق "رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان"، ثم فكرت بالتالي: هل سأقبل أن ينشر أحدٌ ممن أحببتهم في حياتي محادثاتي الخاصة معه، أو رسائلي له، من دون استشارتي بذلك؟ وهل الذريعة أنني كاتبة، وأن بين الرسائل والمحادثات ما يمكنه أن يكون نصوصاً أدبية، ما يبرّر هذا التصرّف الشبيهة بعملية الاغتصاب؟ في لحظةٍ ما، قد أرسل رسالةً لأحد، وأنا في حالة غضب وتوتر، أو بحالة ضعفٍ أو احتياج أو خوف، أو أية حالةٍ معقدةٍ أو بسيطة، ولو أردت عرض حالتي أمام الآخرين، لكتبتها على صفحتي الشخصية مثلاً، أو لكتبتها مقالاً أو نصاً نشرته في أية صحيفة.
وفي حالة أنسي الحاج، مثلاً، كان يمكنه فعل هذا ببساطةٍ، حين كتب رسائله إلى غادة، وأنسي عاش طويلاً بعد هذه الرسائل القليلة. وكان يمكنه الإشارة إليها لو أراد، أو الحديث عن حبه القصير غادة في أيٍّ من نصوصه. صمته دليلٌ على رغبته بتجاهل الحكاية برمتها. هل يحقّ لأيٍّ كان، حتى لغادة نفسها، الاعتداء على هذه الرغبة بعد رحيله؟ لا أوافق طبعاً على اتهام كاتبة، بحجم غادة السمان، بالإفلاس والبحث عن الشهرة، وإلى ما ذلك من اتهاماتٍ لا تليق بها وبتاريخها الأدبي الطويل. ولكن، أيضا لا تشكل الكتابة الأدبية في الرسائل الشخصية ذريعةً يمكن الاستناد عليها في سلوكٍ شبيهٍ بالاستباحة من وجهة نظري.