كانت خطة لئيمة يا أستاذ، ولا شك أنك رتبت لها منذ أمد بعيد، بكامل وعيك وخيالك. فصل أخير أنت بطله الأوحد، والبقية - وهم هنا كل الناس غيرك- مجرد مؤدّين ثانويين في مشاهد خالدة، وفي الغالب لا تظهر منهم إلا أعقاب رؤوسهم وظهورهم، وأنت في قلب كل شيء.
هل تعلم، حين أفكر في الأمر على مهل أدرك أن الحبكة بسيطة وهذا سرّها، بل أبسط من حبكة أية قصة قصيرة كتبتها. لا أخفي عنك، وأنت في هذا الصباح قريب بعيد، أنني فكرت في مراسلتك أو مراسلة زوجتك. طبعاً أدركت أن مراسلتك لن تجدي. أما خيار مراسلة مرسيديس فكان وارداً، ولكنني أعدت التفكير مرتين، وقلت دع العجوز يؤدي دوره الأخير، لماذا التنكيد والتنغيص!
بصراحة كنت سأكتب لك رسالة من سطر واحد وهذا نصّها: "لم أكن أدرك أنك ممثل لامع يا أستاذ، بل ممثل أدوار طويلة أيضاً. هنيئاً لك. المهم أخبرني كيف رتبّت الأمر مع جوقة الأطباء وأقنعتهم بخطتك؟ ألا توجد لديكم رقابة على التقارير الطبية المزيّفة؟!"
بصراحة أكبر - وهل تجوز مع الراحلين غير الصراحة الخالصة! - وتفادياً لانتظار رسالة ردك على رسالتي التي لم تصل أصلاً، ها أنا أقترح حوارك مع كبير الأطباء، الأصلع ذاك الذي خرج على الملأ أول الأمر، وقال بنبرة واثقة حزينة إنك مصاب بخرف متقدم. ولتأثيث حواركما أفترض أنه حصل في مكتبك وأنت مستلق على ظهرك تنظر إلى السقف، والطبيب يجلس مؤدباً على كرسيه يستمع لحديثك العجيب:
أنت تعلم يا صديقي أن هذا البدن بكل علله وأمراضه كان ماثلاً دوماً بين يديك، وقد ائتمنتك على ما هو أهم من البدن، العقل والذهن والروح، أنت صديقي أولاً وطبيبي ثانياً، وما سأطلبه منك اليوم يعدل وهبي حياة ثانية، وبمجرد سماعك كلامي سيغدو نافذاً، واسمح لي أن ألزمك اليوم بما أقول لمرة أولى وأخيرة.
لقد تعبت، نعم تعبت مما مضى، ولا يعني ذلك أنني لست سعيداً، أبداً، أنت تعلم أن كل خلية في هذا الجسد سعيدة، ولكنني أشعر بدنو نهاية ما، والسرطان لا يرحم، ومكابدته الطويلة هي الانتصار في النهاية، وأريد أن أنتظر هزيمتي الجميلة كما أحب وأشتهي، وأنا وأنت فقط سنرتب للسنوات القلائل التي تفصلنا عن موعد رحيلي.
لقد كتبت الكثير كما تعلم البشرية كلها. يقول النقاد كلاماً كثيراً عن عيش الكاتب حيوات أبطاله، قد يكون ذلك صحيحاً من باب المجاز فقط، ولكنني أريده اليوم واقعاً، أريد دورا جميلاً انتظرته طويلاً، دوراً يليق بحياتي الطويلة، دوراً سحرياً، سحرياً أكثر من تلك التي يسمونها واقعية سحرية.
ستعلن يا طبيبي الجميل أن السرطان تحالف مع مرض ما يفقدني الذاكرة، لا أدري ما هي الصيغة الأنسب، خرف ربما، المهم أنه فقدان ذاكرة حاد مع أمل بسيط بالتذكر بين فينة وأخرى. فقدان ذاكرة يعفيني من الإجابة عن أي سؤال، ويعفيني من أية التزامات اجتماعية. فقدان ذاكرة يحوّلني إلى طفل يبتسم له الناس ويضحكون ويداعبون وجهه دون أمل بشيء أكثر من رد ابتسامة. فقدان ذاكرة يريحني من النقاد والقراء المزعجين ومن الصحفيين أيضاً. سلام تام.
ولكن لا بد من ترك مساحة بسيطة لأمل بالتذكر، أتدري لماذا أريدها؟ سيأتي الناس إليّ بكل جميل في حياتي ويضعونه بين يديّ لتنشيط الذاكرة المفقودة، تخيّل! لو أنني اليوم أعلنت عن رغبتي وحاجتي لرؤية كل جميل مضى في عمري، الجميلات اللواتي أحببتهن، أنحاء عشت فيها وعشتها، كتب بديعة عصرتني وعصرتها، أزهار علقتها على قلبي، روائح وأصوات ومذاقات ووجوه، هل يمكنني الحصول عليها؟!
يستحيل ذلك، ولكن إعلانك فقداني الذاكرة، ودعوتك المقربين والأحبة للمساعدة في بث أي تذكّرات فيّ سيأتياني بكل شيء، سيتنادى الجميع لمساعدة العجوز الحزين، سيحملون خلاصة حياتي إليّ، سأعيش في بضع سنوات حياتي كلها مرة أخرى، مكثّفة، مصفّاة، لا مكان فيها إلا للجمال.
سأعيش في جنة قبل الموت إن حصل هذا، تخيّل، سترتمي صبية جميلة عند قدميّ وتضع خدّها على ركبتي، وتحمل روايتي الأولى في حجرها، وتقرأ لي بصوتها المغلف بالضحك والبكاء، علّها تنشّط ذاكرتي المهترئة. ياه! أريد ذلك يا صديقي، بحق كل شيء جميل، بحق كل سطر كتبته وملأ الدنيا، أريد ذلك.
لا تقلق من العائلة، لا أريد أن يعرف غونزالو ورودريغو بالأمر، وربما أُخبر مرسيديس، وهذه مخاطرة، سأفوّت كل محاولاتها الساحرة في بعث الذكريات فيّ، ما رأيك؟ هل أخبرها أم لا؟
- غابو.. يمكنني أن أقنع الدنيا كلها بحالتك المزعومة إلا مرسيديس! ما بالك!
- ما رأيك أن تخبرها بخطتي وتطلب منها أن تتصرف كأنها لا تعلم شيئا؟!
- يا رجل بدأت تصعّب المسألة المستحيلة أصلاً. أنت طفل بجسد عجوز، تريد أن تعلب!
- بحق أيّ شيء .. خاتمة محكمة .. لعبة أخيرة صغيرة.. جنة من الذكريات!"
هيييه يا أستاذ، وهذا ما حصل. لك الرحمة أيها اللئيم.
* روائي من فلسطين