رسائل من مدينة محاصرة

26 أكتوبر 2015
طبيعة صامتة، قزحيات بخلفية صفراء، فنسنت فان غوغ (Getty)
+ الخط -
الخميس 13 يوليو/ تموز 2006: لا شيء لتفكر به
تصلني من شقيقتي مساء الأربعاء رسالة على هاتفي المحمول، "لحظة"، أقول لصديقتي، وأنير الشاشة: "أهلاً عبد القادر، كيفك؟ أردت أن أخبرك أن والدنا يطلب منك الرحيل فوراً عن لبنان". كان لا بد لي أن أغرق في الضحك. أعرف من خبرتي في أية ظروف قال أبي هذا الكلام: جالس أمام شاشة التلفزيون، يشاهد على قناة الجزيرة دخول إسرائيل بعتادها العسكري إلى الجنوب اللبناني، فيقفز عن مقعده وينادي على أختي: "اتصلي بأخيك الآن، الآن.. الآن، لا، حالاً، وأخبريه أنه يجب أن يعود، يعود، يعود.. يعود"، كان هذا هو رابع أسبوع لي في بيروت وأنا أتجول مع صديقتي في المدينة، أستيقظ صباح الخميس على ضجيج الهاتف، تقول صديقتي:
- والدك لديه الحق في مطالبتك بالعودة.
- ماذا تعنين؟
- ضرب الإسرائيليون مطار بيروت.

أقوم كي أشاهد التلفزيون، أرى المطار وأماكن القصف والتدمير، والذين يحاولون الرحيل عن بيروت. المسافة بين حجرتي وبين مطار بيروت الدولي لا تزيد عن 20 دقيقة فقط. تقول إسرائيل إن حزب الله كان يستخدم المطار لنقل السلاح، وإن الحكومة اللبنانية كانت على علم بذلك. السائحون والمهاجرون لا يستطيعون التحرك، بعد قصف مطار بيروت تقصف إسرائيل مبنى قناة "المنار" التلفزيونية التابعة لحزب الله، والواقعة في الحي الشيعي من بيروت، ويقتل اثنان جرّاء القصف. قبلها بيوم واحد، كانوا ما يزالون يهللون في القناة فرحين لنجاحهم في خطف اثنين من جنود إسرائيل، وإسرائيل تعلن عن منح حزب الله مهلة لاستعادة الجنديين المخطوفين، وإلا فسوف يعاودون ضرب جنوب لبنان مرة أخرى. وتصل من الجنوب أخبار تفيد بأن خمسين شخصاً قتلوا. وكان العدد يزداد في كل ساعة تمر.

ثمة شعور عميق بالأزمة في الشارع اللبناني، الجميع يستمعون إلى الراديو أو يشاهدون قنوات التلفزيون الإخبارية. نشاط شارع الحمراء، الذي يعدّ المركز التجاري للمدينة، هدأ تماماً، الجميع يتصلون ببعضهم البعض. في البداية كانوا فرحين بعملية حزب الله التي كانت نتيجتها قتل ثمانية جنود إسرائيليين وخطف اثنين. لكن، جاءت عملية حزب الله في أسوأ لحظات يمرّ بها الاقتصاد وحركة السياحة اللبنانيان. فالعملية دمّرت ما يدعم لبنان كله. وأصبح السؤال الآن : ماذا سيكون رد فعل الأحزاب اللبنانية الأخرى؟. يعلم الجميع هنا أن حزب الله يعتمد على سورية، البلد الذي كان يتواجد في الجنوب اللبناني حتى العام الماضي (2005). انتهى الصبر اللبناني مع سورية بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني، رفيق الحريري. وربما ينتهي الآن صبر اللبنانيين أيضاً مع حزب الله، سيكون هذا هو السؤال الأكبر في الساعات، والأيام، والأسابيع، أو الشهور المقبلة، في ظلّ قصف إسرائيل للجنوب اللبناني وبيروت ووادي البقاع والشمال المتاخم للحدود اللبنانية السورية.

في المقهى المفضّل لي، الذي ألجأ إليه يومياً لساعات عاكفاً على كتابي الجديد، وأستريح فيه أكثر من غرفتي التي انقطع عنها التيار الكهربائي بسبب غارات إسرائيل على بيروت، يديرون دائماً موسيقى باخ، تارة في نسخة كلاسيكية وأخرى في نسخة جاز فرنسية طليعية. هنا في مقهى "براغ" تجتمع النخبة التي تشكّل طليعة بيروت من المثقفين والفنانين؛ الفنان التشكيلي كرم والسينمائي الشاب علي يصافحانني، يقول كرم: "وجودك هنا يصادف أحداثاً مهمة"، ويضيف: "إن احتجت إلى مانشيت صحافي تعال إليّ". أسأل علي: "ماذا تتوقع؟"، يضحك: "أنا؟! لا شيء لأفكر به، كففت عن التفكير اليوم، من الآن نشاهد اللحظة التي نحياها وهي تتبدل من يوم ليوم، لا.. بل من ساعة إلى أخرى"، يضيف بمرارة: "نحن الذين ندفع الآن فاتورة دين أوروبا لإسرائيل. الأصوليون والمتطرفون يجنون مصالحهم في ما يحدث، ونحن لا ندري إلى أين نذهب".

ماذا عليك أن تفعل لو لم تكن تعرف إلى أي من الجانبين المتصارعين عليك أن تنحاز؟. وجدت نفسي أنحاز إلى ملابس نظيفة، سألت علي: "هل يمكن لي أن أغسل ملابسي لديك في وقت الحرب؟"، قال: "طبعًا، سأنتظرك ظهيرة الغد".
أنحاز إلى ملابس نظيفة، فيما أتمنى أن يكون لدى "علي" سائل العناية بالملابس!



الجمعة 14 يوليو/ تموز 2006: "بووووم" كبير وهادر

أكتب هذا النص على كمبيوتر محمول مستعار ومزود ببطارية إضافية. منذ الصباح وبيروت من دون تيار كهربائي. في الليلة السابقة، قصفت إسرائيل سنترالاً كهربائياً مركزياً كان يغذي المدينة. بيروت من دون إنارة. ليس هناك أي تكييف يعمل، والجميع يهرعون إلى محلات السوبر ماركت، في واحدة من لحظات جنون تخزين الأطعمة خوفاً من جوع الحرب. يشتري الناس ما تطاله أياديهم، فيما يرحل بعضهم إلى بيوت أخرى لهم في الجبل سعياً إلى مزيد من الأمان، وهرباً من الموت الذي تمطره السماء عليهم.

استيقظت صباحاً على هدير صوت الطيران الإسرائيلي وهو يحلق فوق سماء بيروت. قرأت كثيراً عن مثل هذا الصوت في العديد من الكتب التي تناولت الحرب الأهلية اللبنانية والحرب في كوسوفو. أسمعه الآن للمرة الأولى، كأنَّه أزيز سكين ضخم يخترق الهواء بسرعة هائلة. ربما يكون سبب هذا الأزيز هو سقوط القنابل والصواريخ في الهواء قبل سقوطها على الأرض.

قررت إسرائيل أن تقصف جنوب المدينة من جديد، بعدما أعلنت الحكومة الإسرائيلية رسمياً أن حسن نصر الله، قائد حزب الله والمسؤول عن خطف الجنديين الإسرائيليين، يجب أن يُقتل. أفتح التلفزيون وأشاهد الحي الذي قصف في الجنوب؛ كنيسة، جسراً مدمراً تماماً، وصبيّاً غارقاً في دمائه.

مكيف الهواء لا يعمل، أشعر ببلل في كامل جسمي، أتقلّب في فراشي محاولاً التفكير في شيء آخر ممتع. بوووووم، أسمع، بووووووووم كبير وهادر، يأتي الصوت من البحر، بارجة إسرائيلية ضربت بيروت، لا أعلم إلى أي مدى سيصل مدى الصواريخ، أتشوّق الآن للوقوف تحت الدوش ولكن ليس هناك مياه. فمي جاف جداً، أبلل شفتيّ بقليل من الماء، ثم أمدد جسدي من جديد، سيأتي النوم في النهاية.

صديقي الذي سمح لي بأن أغسل ملابسي في بيته ليس لديه كهرباء. مقهى "براغ" ليس لديه تيار كهربائي ولا اتصال بشبكة الإنترنت. الذين يحاولون الاتصال بي لا يستطيعون الوصول إليّ. أعلنت الحكومة اللبنانية رسمياً أنها لا تتحمل أي مسؤولية لعملية خطف الجنديين. للمرة الأولى منذ سنوات تتجلى وحدة لبنانية ما، ربما تكون هذه هي النتيجة الإيجابية الوحيدة فيما يحدث الآن، ولكن ما قيمة مثل هذه الوحدة؟ مقهى إنترنت مفتوح يطلب ضعف الثمن العادي، أطفال يلعبون في الشوارع، يهربون من ضغط آبائهم ومن العنف المحلّق فوق رؤوسهم، ويفرغون طاقاتهم في اللعب، يعيشون في عالم من صنعهم وحدهم.

عند وقت الغداء، ليس هناك صوت في الشارع، نادراً ما تجد سيارة تاكسي واحدة، والناس مستمرون في الرحيل إلى الجبل، فيما يتجمع الشباب سوياً على الأرصفة وفي الميادين مساء. بدأت عطلة الأسبوع بالخطب الدينية في المساجد، ثم يبدأ الليل من جديد بصوت حديدي مصحوباً بـ "بووووووم" معتم وغامق.

تسألني صديقة: "لماذا لا ترحل؟"، ليس لديّ جواب، وعدت نفسي أن أبقى هنا حتى سبتمبر/ أيلول المقبل. وعد قطعته على نفسي وأريد أن أفي به، وأن أتعلم اللغة العربية هنا وأنهي كتابي الجديد. لماذا أتمسك هكذا بمثل هذا الوعد؟. من الممكن أن أذهب إلى دمشق وأقيم هناك في المعهد الهولندي، إلى أن يتحسّن الوضع هنا في بيروت. زوج الصديقة يقول لي إن الأمر لن يستمر أكثر من عطلة نهاية الأسبوع، فأشعر ببعض الراحة، لا أريد أن أرحل من هنا. لا تسألني لم؟ مذيعة الراديو الهولندي سألتني مساء أمس عما إذا كان لديّ ملجأ أختبئ فيه أثناء القصف الإسرائيلي، أم لا. لم أفهم جيداً ماذا تقصد، لكن لو نجحت في النوم فسوف أصنع لنفسي ملجأ، ملجأ في رأسي، لا أملك سوى هذا.

ترجمة:عماد فؤاد (عن الهولندية)
دلالات
المساهمون