رحيل لكريمي... فنّ الحلقة يخسر ضحكات كثيرة

28 يوليو 2020
كان يقيم عروضه داخل الأسواق الأسبوعية أو على هوامش المدن والبوادي (Getty)
+ الخط -

 

جاء خبر رحيل الفنّان المغربي الشعبي الكوميدي "لكريمي" (محمد بلحجام) قبل أيام قليلة صاعقاً بالنسبة لكثير من المغاربة، ممن ألفوا أنْ يتجمهروا حول حلقته للضحك والسخرية. فالرجل ببساطته الساحرة لم يكُن في حاجة إلى الكلام، نظرة واحدة منه تُصيب المرء بالضحك، وهو يسخر من الناس الذين من حوله وفق سكيتشات شعبية قصيرة ضاربة في جرح القبائل المغربيّة بكل أطيافها وبداوتها، إذ يلجأ إلى قاع مُعتق من تراث المجتمع المغربي من أجل أنْ يستلهم مادته ويجعلها تخرج من جسده في طواعية تامة، يتسلّل سحر إيقاع كلماتها ورنين دلالاتها وبلاغتها إلى مسام الجسد، فتحدث لدغة سامة وهستيرية من الضحك الممزوج بالألم والسخرية من المغاربة وأشكالهم وقاماتهم وتفكيرهم وسلوكاتهم، التي يجعل منها لكريمي مادة لفنّه، عاملاً على مسرحتها وتجسيدها بجسده النحيف.

لم يدرس لكريمي في حياته، ولم يتلقَّ تكويناً احترافياً في السينما أو المسرح، أو في الفنّ عموماً. ومع ذلك فهو سارد بليغ وساخر مُصيب في كل ما يتناوله داخل حلقته من قضايا ومشاكل يومية عويصة يُعاني منها المغربي المقهور، جعلته اليوم واحداً من أهم الكوميديين الشعبيين المغاربة، الذين اخترقت سكيتشاتهم الآفاق وتوغل كلامهم أكثر داخل الوجدان المغربي بكل أطيافه، وما تزال إلى الآن حلقاته مُتداولة بين الناس داخل هواتفهم، فهو لم يكُن يدعي أنه فنّان ولا حاول يوماً أنْ يحشر نفسه مع رهط من الفنانين المغاربة. إذ لا يُفارق حلقته داخل الأسواق الأسبوعية، التي يتردّد عليها جمهور غفير من كل أنحاء المغرب، للاستمتاع بمشاهدته وهو ينبش في سلوكات المغاربة ويعريها أمام الناس. بل إنه في الكثير من المرات يجعل ممن يحيطون به داخل الحلقة مادة لسكيتشاته، خاصة وأنه لم يكن في حاجة إلى تحضير مادته، فكل الأشياء تتدفق من قلبه مثل شلال هيستيري من الحكي الدافئ والساخر، يعمل دوماً على تغذيته بآلة موسيقية لا تُفارقه هي "لوتار" التي يجعل منها دوماً الوسيلة الخفيّة التي يُكسّر من خلالها حدّة ضحك الناس بمقاطع غنائية هزلية تطرب الناس وتجعلهم في فرح عارم منذ بداية الحقلة إلى نهايتها.

من الحلقة داخل الأسواق الأسبوعية أو على هوامش المدن والبوادي، بوصفها الفضاء الوحيد الذي احتضن فنّ الحلقة وفرجتها الشعبية في تاريخ المغرب، فطنت بعض المهرجانات الكوميدية داخل المغرب إلى اسم لكريمي، بحيث عمل أكثر من مهرجان على استدعاء الفنّان للمشاركة ضمن دوراته المُتعدّدة، التي جعلت الناس يقبلون على هذه المهرجانات بسبب لكريمي، ليصبح شهيراً داخلها، حتى باتت هذه المهرجانات تستمد قوتها من هذا النوع من الفنانين الشعبيين، الذين عاشوا داخل هوامش مدن المركز، مُستمتعين بحياتهم البسيطة داخل الأسواق الأسبوعية مع جماهيرهم الغفيرة.

يشبه هؤلاء نبتة الظلّ، التي لا تستطيع أن تنموا داخل أراضٍ أخرى تنعدم فيها الحرية والبساطة وعبق التاريخ، أو هم بالأخرى يعيشون جرحهم وفقرهم ومصائرهم بكل تراجيديتها داخل هذه الأسواق، في غياب لأشكال اعتراف كليّ من الجهات الرسمية المسؤولة عن قطاع الفنّ في المغرب، وعدم الاعتراف بهم كفنانين يُمثلون الذاكرة المغربيّة، بوصفهم يُمارسون فنّاً ضارباً في الجذور التاريخية للمغاربة، خاصة أنهم آخر العلامات المُضيئة لفنّ الحلقة في المغرب، وبالتالي، فإن التهميش الذي طاول الفنّان "لكريمي" ما هو في الحقيقة إلّا مجرد نسخة صغيرة عن عشرات الفنانين الشعبيين، الذي يموتون في صمت، أمام مال سائب وفنّ كوميديّ مُبتذل يُقدّم إلى المغاربة، لكن، ماذا كان سيحدث لو اقتحم هؤلاء الفنانون التلفزيون المغربي، ألن يحقق ثورته المُنتظرة وربما حجم مشاهدات لن يُحققها في تاريخه؟ لقد أثار موت الفنّان الشعبي الكثير من التساؤلات المشروعة، التي تتصل بالفنّ الشعبي في المغرب، وأيضاً الكثير من الغضب في صفوف المغاربة داخل صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، التي غدت بمثابة وطن حقيقي وجديد لهم، عن مصير أشباه "لكريمي" داخل المغرب وضرورة تدخل التلفزيون المغربي لإنقاذ هؤلاء من الفقر الذي ينهش عظامهم والضياع المرير الذي يأكل أجسادهم داخل بوادي المغرب المنسيّ

المساهمون