رحلة إلى بحيرة الأسرار

22 سبتمبر 2015
لوحة للفنان القطري سلمان المالك
+ الخط -
كيف تتشكّل الأساطير وتتطوّر، ولماذا تصمد بعضها وتردّد من جيل لجيل؟ سؤالٌ لطالما استعمرني، واستحضرته خلال زيارة مدهشة لبحيرة سفيتلايور، على بعد 130 كيلومترًا من نيغني نوفغورد (غوركي سابقًا)، العاصمة الثالثة لروسيا.
لا توجد، في الحقيقة، بحيرة على الأرض محفوفة بالأساطير العتيقة والطقوس الشعبية الاحتفالية الدائمة مثلها. فمدينة كيتغز المقدّسة تختفي في قاعها المائي، لأن "الإله أراد حمايتها من العالَم الذي ازدادت شروره"، كما تقول صيغة وثنيّة من الأساطير. أو "حمايتها من هجوم التتار على نيغني نوفغورود في القرن 13"، كما تقول صيغة أخرى. فحين وصلها التتار "استغربوا عدم وجود أسوار لحمايتها. أسوارها كانت تراتيل صلوات أهلها الأتقياء"، وإذ هجم التتار إليها "تفجّرت مياه غمرت المدينة فأخفتها، وحمتها من سطوِهم وتدميرهم".
ثمّة من يقول حتّى اليوم إن أجراس كنائسها تُسمع بين الحين والحين. وثمّة من يجزم أنه رأى ذات صيف بياضاً ناصعاً في قاع البحيرة: لون حجارة منازلها حسب الأسطورة. وثمّة من يقول إنه يرى أضواء تعبرها بين الحين والحين.
أسرت البحيرة ومدينة كيتغز شعراء وفنانين عديدين. كرَّس لها نيكولاي كارزاكوف أوبرا شهيرة: "أسطورة مدينة كيتغز اللامرئية" (1907). رسمها العديد من الفنانين التشكيليين، وكتب عنها الكثيرون مثل كوريلنكو وبتروشسكي وغوركي، وعدد من قصائد آنا آخماتوفا، وبضعة أفلام دولية.
للوصول إلى البحيرة يلزمك أوّلاً عبور غابات من صفوف أشجار البتولا البيضاء، الرمز الوطني لروسيا، متاخمةٍ لقرية فلاديميروسكا ذات المنازل الخشبية البديعة، المبنيّة كليّةً من جذوعٍ صلبةٍ متمثالة، تتخلّلها صفوفٌ من ثقوب تعبرها جذوع عمودية متطابقة من الأشجار نفسها. تفاجئك بعدها بحيرةٌ صغيرة، ماؤها نقيٌّ شفافٌ رقراقٌ بلوريّ، لا مثيل لصفائه. له خصائص استثنائية: يمكن حفظه سنين من دون أن يتلوّث.
نشأت الأساطير وترعرعت غالباً عندما لاحظ الإنسان الأوّل ظواهر لم يعرف كيف يستوعبها. فكفى لمياه البحيرة أن تكون كذلك، ليؤمن الإنسان الأوّل، في العصور الوثنية، بأن هذه البحيرة مقدّسة، فيحرّم السباحة فيها، ويعدّ ماءها علاجاً، ويطلق تعاويذه التحذيرية الخرافية من الضرّر يصيب شجرها، تعاويذ التي ما زالت تردّد إلى اليوم: "من مسّ شجرة في غابة البحيرة أصابه الأذى".
فجدّنا القديم، الذي قضى حياته يتأوّه من ضعفه الجذريّ ويرتجف خوفاً من ضواري الأرض وعواصفها وفيضاناتها وكوارثها، لم يتوقّف عن مراقبة الصخور والغابات وما وراء الأكمات. همّهُ استنطاق ما تكنّه من مقدرات لإحضار الموت،
أو دعم الحياة: لا يرى في أية ظاهرة طبيعية تواجهه إلا رمزاً لغضب الآلهة وحاجتها لأضحيات منه، أو مدداً منها وجميلاً مقابل أضحياته الأخيرة. فما الذي يحافظ على بعض الأساطير بعد نشوئها، ويجعلها تتكيّف مع الزمن، وتتردّد من جيل لجيل؟
حسب علماء الذهن: لو عُرض لإنسان شكلٌ هندسي "مشعبك" برؤوس وخطوط كثيرة لا يربط هيأتها ومنطقها رابط، فسينساه سريعاً. لكن لو عُرض عليه شكلٌ هندسيٌّ تقليدي كالمستطيل، غير أنه يخالف العادة بأمر واحد فقط: كأن تستبدل إحدى زواياه الأربع مثلاً بمثلث يرتكز خارج المستطيل كقَرن أو كذيل، فسيظلّ الشكل منطبعاً بالذاكرة وقتاً أطول.

اقرأ أيضاً: من كتب غلب، ومن رقمن هيمن

الدماغ البشري حسّاسٌ لاستقبال كلّ ما يشبه العادة في كلّ شيء إلا في خصلةٍ واحدة فقط. ذلك صنف يثير ذاكرة عصبونات الدماغ وينطبع فيها بسهولة، حظّه وافرٌ في سوق تطوّر وانتقاء المفاهيم والحكايات والأساطير وبقائها عبر الدهور.
لذا ليس غريباً أن رموز كلّ الأساطير والمعتقدات، التي تصمد عبر الزمن، هي من ذلك الصنف تحديداً؛ الشجرة التي تشبه كلّ الأشجار لكنها تسمع أحاديث العابرين قربها، المرأة التي لا تختلف عن النساء إلا بعيونها الزرقاء التي تسمح برؤية جيشٍ قادم على بعد 3 أيام (زرقاء اليمامة)، التفاحة التي تشبه كل التفاحات لكن قضمها يسمح بامتلاك كل المعارف. كذلك حال ماء بحيرة سفيتلايور الذي يشبه كل مياه إلا في خاصية نقائه الاستثنائي وإمكانية حفظه لسنين.
يفسّر الكيمائيون اليوم سرّ النقاء الدائم لمياه البحيرة، بكونها تتجدّد من ينابيع ساخنة أسفلها، وتحتوي على نسبة مناسبة من بيكربونات الكالسيوم.
ثمّة أيضاً أسئلة علميّة مفتوحة حول قاع البحيرة الذي يصعب حسابُ عمقه بالطرق التقليدية، لعدم ارتداد الأمواج الصوتية عند إرسالها باتجاهه، بسبب جيولوجيا قاعه غير الاعتيادي.
البحيرة اليوم مزار أثير للجميع: سوّاح، عشّاق الطبيعة، دارسو الإثنولوجيا، متديّنون من مختلف الأديان قاطبة، عبّادو الشمس، ولا متديّنون أيضاً، يرتعون جميعاً في أحضانها المترعة بالأساطير الدينية والوثنية.
متحفٌ قريبٌ منها زرته، يسرد تاريخها. وكنيسةٌ أورثوذكسية مجاورة، بالطراز المعماري التقليديّ المبنيّ من جذوع أشجار البتولا.
تفاجئك قرب الكنيسة حجرة في الأرض، عليها ثقبٌ يشبه قدماً صغيرة مكتوبٌ قربه: قدم السيدة العذراء. تستحضر حينها مدينة هود في حضرموت التي يرتادها سنويّاً حجاج كثيرون لزيارة: قبر هود، وحجرة قربه، عليها شكل قدم عملاقة، تسمّى قدم النبي هود.
زرتُ البحيرة مع زملاء باحثين روس. سبحت فيها عصر وصولنا: متعة مدهشة. الصمت الربّاني في غابتها المحاذية يثير التأمل والهدوء، "له ضجيجٌ صارخ" كما تقول أغنية بينكي الروسية. أما غسقها الكثيف فلا يُنسى؛ هو "أنصع النهارات" كما تقول الأغنية.
زيارتها في مساء 6 يوليو حتى صباح الغد، حدثٌ متميّزٌ كل عام، بسبب "عيد إيفان كوبالا": عيد ذو جذور وثنيّة، باسمٍ وثنيّ عدّته الكنيسة مقدّساً، يسمّيه البعض: قديس القديسين. للعيد طقوسٌ عديدة منها الرقص قرب نار مشتعلة في منتصف الليل.
للعيد نفسه اسمٌ آخر في مدن شمال أوربا الإسكندنافية: "عيد القديس يوحنا" الذي "أمّم" العيدَ الوثني، وأعاد صوغه بلباس ديني: فيه تُمارس الطقوس النارية الوثنيّة نفسها، تحت اسمٍ ديني هذه المرّة، كما حال كثيرٍ من الطقوس الوثنية التي كانت عميقة الجذور سابقاً، وصعب محوها، لا سيّما في بلدٍ كروسيا ظلّ وثنيّاً حتى وصول المسيحية المتأخر عام 988.
تشتعل البحيرة الروسية في عيد إيفان كوبالا بنشاطات وطقوس كثيرة: ثمّة من يتضرّج بِطين البحيرة، أو يبحث عن زهرة لا تظهر إلا في تلك الأيام، والذي يجدها ينال الحظ! رقصٌ وطقوسٌ نارية طوال الليل.
في ذلك العيد أو بدونه، تظلّ هذه البحيرة مأوىً فريداً للتأمّل والسكينة، وملاذاً في غاية الجمال، وإن كانت أساطيرها هي الأجمل.
المساهمون