رجس من عمل الإنسان

05 مارس 2018

(الأناضول)

+ الخط -
طفلة لم يبلغ عمرها الثلاث سنوات تصبح نجمة في "السوشيال ميديا" بين ليلة وضحاها، لساعات محدودة، لأن والدتها الفهيمة قررت فجأة أن تتظارف على صفحات "فيسبوك"، فحشرت الصغيرة المسكينة في قدر منزلي مخصص للطبخ، والتقطت صورةً، توقعت أن تكون مضحكةً، تحصد على إثرها بضعة "لايكات"، لا تغني عن رعب كبير وارتباك تعرضت له الضحية التي علقت في القدر الصغير، ما حدا بالعائلة إلى الاستعانة بقوات الدفاع المدني، لتخليص الصغيرة المسكينة التي اضطر فريق الإنقاذ لقص القدر، باستخدام مقص معدني ضخم، بعد أن فشلت الجهود لإخراجها من هذا المأزق الذي صنعته الأم بحسن نية، ولكن بمقدار مزعج كبير من الاستهتار، وغياب حس المسؤولية الذي ينبغي أن يعرّضها للعقاب والمساءلة القانونية والاجتماعية، كالحرمان من استخدام الهاتف النقال، أو تقديم خدمة اجتماعية، إضافة إلى تحميلها النفقات التي تكبدتها الدولة، وذلك جزاءً عادلا على خيانة أبسط أبجديات الأمومة القائمة المتمثلة في الانتباه والحرص وتوفير الحماية لصغارنا، وهم الأمانة المعلقة في أعناقنا ما دام في العروق نبض، وهي التي أقدمت على إساءة الائتمان والعبث الغبي بروح الطفلة.
لنا أن نتخيل لحظات الهول التي مرت على الصغيرة عاثرة الحظ، وهي تخضع لعمليات الشد والجذب التي باءت بالفشل، بعد محاولات عديدة ومراقبة المقصّ المعدني يمر قريبا جدا من جسدها المرتعش، غير مستجيبة لمحاولات التهدئة التي لم تأت بنتيجة، فظل صراخها مدويا، غير مطمئن إلى إمكانية النجاة. وغالبا غير مدركة أن هؤلاء الرجال المخلصين جاؤوا لإنقاذها وحمايتها، كونها تفترض غريزيا أن هذه مهمة العائلة، ولن تدرك بسهولة أن هؤلاء الغرباء الذي يرتدون ثيابا عسكرية، هم أصدقاء، وهم مصدر الأمان والحماية، كون الصغار يخافون غريزيا من رجال الشرطة، لأن أمهات كثيرات يلجأن إلى إخافة الصغار المشاغبين (بعمو الشرطي) الذي في وسعه أن يسجننا إذا لم نحسن التصرّف.
الصادم، بل والمفجع في كل الحكاية، أن الكاميرا التي كانت السبب والدافع لهذه الجريمة الإلكترونية ظلت مستمرة في بث الحكاية، على الرغم من أنها مدعاة للحرج، وسبب للتقريع والتوبيخ لم تتوقف لحظة، ورصدت لحظة بلحظة مجريات الأحداث التي انتهت بفضل العناية الإلهية بنجاة الصغيرة التي ظلت مذعورة. وفي لقطة غاشمة أخرى، ترصد صحافية، مفترض أن لديها خبرة طويلة ومعرفة بالأعراف الصحافية، مقطع فيديو لصغارٍ، لم يتجاوز عمر أكبرهم الرابعة عشرة، وهم يلتهمون الجاتوه الذي ألقاه أحدهم في حاوية القمامة، وكان همها الكبير التركيز على أن رمي هذه النعمة والناس جوعى حرام. ولم يخطر في بالها أن القانون يكفل حماية حق هؤلاء الأطفال في الخصوصية والحماية، ولا يحق لها، في أي حال، عرض صورهم من دون تظليل يكفل إخفاء معالم وجوههم بالكامل. عوضا عن ذلك، جرى استعراض كبير على حساب سمعة أولئك الصغار وكرامتهم، فيما حصدت الصحافية المخضرمة من خلال إحداث صدمة لدى المتلقى "لايكاتٍ" كثيرة، وكسبت مزيدا من الإعجاب بمدى غيرتها على المصلحة العامة، ومصلحة الأمة، وتعليقات من وزن "لو في مثلك عشرة بالبلد"، و"يسعد البطن الذي حملك". إضافة إلى كيل الشتائم والسباب لمن ألقى الجاتوه في الحاوية، من دون طرح تساؤل عن خطر تعرّض الصغار القصر إلى التسمم، جراء تناول مادة تالفة بالضرورة.
قولوا بربكم: إلى أي مدىً في وسع الواحد منا أن يجلب لنفسه، في هذا الزمن المفضوح، استجلابا للاهتمام والاستحسان والإطراء؟ أي حدود مهنية وأخلاقية وإنسانية ينبغي أن تضبط هذا الهياج الافتراضي الذي بات وحشا يغرز أنيابه الزرقاء الفتاكة في تفاصيل حياتنا؟ وكيف نقدّم العزاء في منظومة أخلاق تربينا عليها، والمفترض أن نورثها لأجيال مقبلة بشأن احترام الخصوصية، وعدم انتهاك حرمات الناس؟ بماذا بالضبط يفكر شخصٌ من المفترض أنه وقور، يلتقط صورة لنفسه في روب المستشفى في غرفة الإنعاش؟ وماذا تحقق سيدة تأخذ صورة سيلفي مع قبر والدتها؟ متى تحولنا إلى هذه الكائنات الممسوخة الصغيرة التي تقتات على الفضائح والغرائب والطرائف غير الطريفة؟ ومتى سينتهي هذا الوهم الخطير القاتل بالشهرة والنجومية؟ متى سندرك أن ذلك باطل الأباطيل، ورجس من عمل الإنسان ليس أكثر؟
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.

The website encountered an unexpected error. Please try again later.