الأخبار السيئة لا تأتي إلا تباعاً. هذه حال رئاسة دونالد ترامب منذ قيام فيروس كورونا بإخراجه عن طوره، تلاه خروج تظاهرات منددة بالعنصرية، احتمى فيها الرئيس بالإنجيل محاطاً بقيادات العسكر، في مشهد سوريالي أدّى إلى عاصفةٍ من الانتقادات هزّت أروقة وزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون". المحكمة العليا وجهت أخيراً صفعتين إلى ساكن البيت الأبيض وسياسات إدارته التمييزية، وكذلك مستشاره السابق للأمن القومي جون بولتون الذي كسر حاجز الصمت حول أسرار ترامب مع قادة العالم، في موجةٍ جديدة من فضائح لم تحمل جديداً يفاجئ الأميركيين عن أسلوب حكم رئيسهم.
ترامب بدأ يشعر بالأرض الانتخابية تهتز تحت قدميه، في ظلّ تقدّم منافسه الديمقراطي، نائب الرئيس السابق جو بايدن، في استطلاعات الرأي. أقرّ الرئيس للمرة الأولى، في حديث لصحيفة "بوليتيكو"، بطريقةٍ غير مباشرة، بأنه يخشى خسارة انتخابية محتملة في حال اعتماد الاقتراع عبر البريد، نتيجة الدعاوى التي قد تتراكم في المحاكم بسبب هذا الأمر. هذا طبعاً تكتيك انتخابي لمحاولة خفض نسبة الاقتراع عند الديمقراطيين الذين قد يكون لديهم هواجس في التوجه إلى صناديق الاقتراع في الخريف المقبل، نتيجة تداعيات كورونا. ترامب يواجه سقوطاً دراماتيكياً في استطلاعات الرأي، إذ أصبح وراء بايدن بتسع نقاط على الأقل في معدلات استطلاع الرأي الوطنية. كذلك تراجع في الولايات المحورية، حتى التي كانت عادة محسومة للجمهوريين في الانتخابات الرئاسية. بحسب استطلاع رويترز- إيبسوس، لا يوافق 57 في المائة من الأميركيين على أداء الرئيس، مقابل موافقة 38 في المائة، وهو المعدل الأدنى لترامب منذ شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. كذلك إن ارتفاع منسوب التشاؤم بين الأميركيين لا يُبشّر عادة بالخير لرئيسٍ في الحكم، إذ جاء في استطلاع لوكالة "أسوشييتد برس"، أن 74 في المائة من الأميركيين يعتقدون أن بلدهم يسير في الاتجاه الخطأ، من بينهم 63 في المائة جمهوريون.
داخل الحزب الجمهوري، هناك معارضة تتبلور بمستوى غير مسبوق مثل "مشروع لينكولن" و"جمهوريين من أجل بايدن"، وهي لجان عمل سياسية مؤلفة من جمهوريين معتدلين ناشطين في المجال العام، كانت تعمل مع الرئيس الراحل رونالد ريغان والرئيس الأسبق جورج بوش الابن والسيناتور الراحل جون ماكين وغيرهم. وهناك قيادات عسكرية متقاعدة كانت تقليدياً بعيدة عن السياسة، بدأت تنتقد ترامب علناً، مثل وزير الخارجية الأسبق الجنرال كولن بأول، ووزير الدفاع السابق جيمس ماتيس، ورئيسي هيئة الأركان المشتركة السابقين مايكل مولن ومارتن ديمبسي.
هذا التخبط الرئاسي يضع الجمهوريين في الكونغرس، ولا سيما في مجلس الشيوخ، أمام معضلة بين أن يصبح ترامب عبئاً انتخابياً عليهم في حملاتهم للتمسك بمقاعدهم في الخريف، أو أن يكون عليهم الاستمرار في دعمه رغم المخاطر المحتملة. اضطر الرئيس في حديثه إلى "بوليتيكو"، إلى توجيه رسالة مبطنة إلى أعضاء حزبه في مجلس الشيوخ، عبر التهديد بقاعدته الانتخابية: "إذا لم يحتضنوني فسيخسرون، لأنه كما تعلم لدي قاعدةٌ صلبة للغاية. لدي أقوى قاعدة شاهدها الناس على الإطلاق". علاقة الرئيس مع الجمهوريين في مجلس الشيوخ سيتم اختبارها في المرحلة المقبلة، بعد فضيحة جديدة ظهرت حين أعلن وزير العدل وليم بار استقالة المدعي العام في الدائرة الجنوبية لنيويورك جيفري بيرمان الذي يحقق في قضايا متعلقة بترامب ومصالحه التجارية ومساعديه. لكن رد بيرمان كان أنه لم يستقل ولن يقبل بإقالته قبل مصادقة مجلس الشيوخ على تعيين بديل عنه، وبالتالي رمى الكرة في ملعب الجمهوريين لاتخاذ موقف مع أو ضد الرئيس في مجلس الشيوخ، قبل أن يقوم ترامب بإقالته.
إذا كانت السياسة وحدها لا تكفي، فالأخبار القضائية لم تكن أفضل أخيراً. بعدما عيّن ترامب قاضيين محافظين في المحكمة العليا (نيل غورسك وبريت كوفونو)، تحدت المحكمة الدستورية سياسات إدارته المثيرة للجدل، وقضت بحماية الموظفين المثليين والمتحولين جنسياً من التمييز على أساس الجنس، في قرارٍ تاريخي شهد تحالفاً بين القضاة الليبراليين والمحافظين في المحكمة. هذه نكسةٌ لإدارة ترامب التي ساندت في المرافعات أمام المحكمة العليا الشركات التي صرفت الموظفين على أساس ميولهم الجنسية. ومنعت المحكمة العليا أيضاً إدارة ترامب من وقف مفاعيل ما يُسمى "برنامج الحالمين"، الذي أقرّه الرئيس السابق باراك أوباما، وسمح من خلاله لنحو 600 ألف شخص وصلوا إلى الولايات المتحدة أطفالاً ولا يملكون أوراقاً شرعية، بالبقاء عامين مع فرصة الحصول على إجازة للعمل. لم تخرج القيادات الجمهورية في الكونغرس لانتقاد المحكمة العليا، بل كان ترامب وحده يتلقى هذه النكسات الدستورية.
حتى صورة الرجل القوي التي حرص ترامب على تثبيتها في الرأي العام، بدأت تهتز بعد مشاهد سيره بخطى متعثرة بعد خطابه في الأكاديمية العسكرية في "ويست بوينت" في ولاية نيويورك. حملة ترامب بدأت تطالب بإجراء المزيد من المناظرات الرئاسية مع بايدن في الأشهر المقبلة، في محاولة لإيجاد فرصة لقلب دينامية السباق، بعدما كان الرئيس يهدد العام الماضي بمقاطعة هذه المناظرات، كذلك بدأ ترامب يجول في الولايات المتأرجحة انتخابياً لتدارك هذا التهاوي الانتخابي.
من الواضح أن الاستعراض السياسي الذي طبع ولاية الرئيس الأولى بدأ يرتد عليه، بعدما تجاوز الخطوط في التعامل مع كورونا والاحتجاجات المناهضة للعنصرية، بحيث لم يرتقِ إلى مستوى هذه التحديات التي تطاول حياة الأميركيين، وانعكس هذا الأمر تلقائياً في استطلاعات الرأي. ترامب قد يلوم حملته على هذه التعثرات، ويجري تعديلات إدارية، ويبحث عن قضية جديدة داخلية أو خارجية لصرف الأنظار، ويمكنه أيضاً فتح المعركة مع بايدن، في محاولة لرسم صورته أمام الرأي العام. لكن مجمل الأدوات الانتخابية التي استخدمها منذ عام 2016 لم تعد عوامل مساعدة نتيجة تراكمات تجربته كرئيس. استطلاع "فوكس" هذا الأسبوع يشير إلى أن النظرة الإيجابية لترامب بين الجمهوريين تصل إلى 86 في المائة، وأن قاعدته الانتخابية لا تزال متمسكة به بالتزامن مع انشقاق الجمهوريين المعتدلين لمصلحة بايدن. أمام ترامب أشهر حاسمة لاسترجاع الدعم الانتخابي الذي خسره، لأن قاعدته الانتخابية وحدها قد لا تكون كافية لتجديد ولايته. السياسة الأميركية توقيتها متسارع، وتجربة عام 2016 تذكّر بأن استبعاد فرص ترامب بالفوز أو التقليل من قدراته على تعديل دينامية السباق الرئاسي قد يكون خطأً كبيراً في التقدير.