ذلك المرض .. ومعالي الوزيرة

09 أكتوبر 2019
+ الخط -
ليس دفاعا عن معالي الوزيرة، لأن التعبير قد خانها، وقد أرادت توصيل فكرة ضرورية، فالحديث عن هذا المرض كان وما زال مرعبا. وأذكر أن جدّتي، ثم أمي، كانتا حين يأتي ذكره كل واحدة تصفه بوصفٍ مجازي للتعبير عن بشاعته، كأن تقول جدتي "أصابها المرض اللي ما يتسماش"، في حين كانت تقول أمي "أصابها بسم الله الرحمن الرحيم"، وتُردف، وهي تحوط نفسها بإشارة ملفوفة من أعلى إلى أسفل جسمها بسبابتها "اسم الله علينا وحوالينا". ولم تخف كلتاهما أن هذا المرض بلاء لا ابتلاء، وأنه صورةٌ من غضب الرب على امرأةٍ بعينها، وليس ابتلاء علينا التصدّي له، حين أصبحت فرص النجاة منه كبيرة، لو تم اكتشافه مبكّرا.
فقدت معلمتي الحبيبة الأثيرة حياتها بسبب هذا المرض في أواخر ثمانينيات القرن الماضي. وقد اشتكت من ألم في صدرها، ولم يتم تشخيص مرضها، وظل قصور الفحص الذاتي على اعتبار متوارثٍ بأن هذا الجزء من الجسم من الأجزاء المحرّمة التي لا يجوز المسّ بها أو كشفها، إلى درجة أن النساء اعتقدن أن هذا الجزء المخفي لا يُصاب بالمرض. وظلت معلمتي خائفة من أن تخسر زوجها، لأن معلوماتها أن لا سبيل للعلاج سوى باستئصال الثدي المصاب، وبذلك سوف ينفر منها زوجها. وما بين التردد والخوف، استفحل المرض في جسدها، حتى استطاعت أن تسافر إلى مصر، بصحبة صغارها، بدعوى السياحة. وهناك أخبرها الأطباء بأنها وصلت متأخرة، وأنها تعيش أيامها الأخيرة.
لم تأت وزيرة الصحة الفلسطينية، مي كيلة، من كوكبٍ آخر، فهي تعرف جيدا تفكير المجتمع ونظرته إلى جسد المرأة. وعلى الرغم من أن مرض سرطان الثدي هو أكثر الأمراض فتكا بالنساء، وخصوصا الفقيرات واللواتي لم يتلقين تعليما أو تثقيفا، لأن هذه الشريحة من النساء بالذات، وفي فلسطين خصوصا، واللواتي غالبا ما يعشن في مناطق بعيدة أو مهمّشة، لا يلجأن إلى الكشف المبكر عن سرطان الثدي، السبب الثاني للوفيات في فلسطين. وحيث يرين أن العيب والحرام يحيط بهذه المنطقة الحساسة من أجسامهن، فيتردّدن في الكشف. ولذلك طالبتهن الوزيرة خصوصا بإجراء الفحص الذاتي، وهو أول خطوات الكشف عن هذا المرض، فالكشف الذاتي الذي كانت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) تخصص له محاضراتٍ تثقيفيةً صحيةً في مدارسها لطالبات المرحلة الإعدادية يعتبر وسيلة أولية ناجحة للكشف عن سرطان الثدي، في حال تدرّبت السيدة أو الفتاة على إجرائه بعد محاضرةٍ طبية، فغالبا ما تعثر المرأة على ورم صغيرـ أو إفراز غير طبيعي، أو تشوه وتغير في لون الجلد، قبل أن يعثر عليه الطاقم الطبي الذي يقوم بمهمة الفحص الدقيق، وليس "التحسيس"، والذي يحمل مضمون التحرّش، حسبما تخيل من انتقدوا خطاب الوزيرة في هذه النقطة بالذات.
ماذا كان سيحدث، وما هي ردود الأفعال، لو طلبت معالي الوزيرة من الأزواج أن يفحصوا نساءهم لمساعدتهن في الكشف عن بوادر هذا المرض، بدلا من الانتظار حتى تصاب به الزوجة، ويقرر الزوج الهروب، وعدم التعاون معها في العلاج الذي من أسباب نجاحه مؤازرة الزوج وتعاطفه؟ ما هو رد فعل الرجال الذين استهجنوا استخدام الوزيرة كلمات بسيطة ربما خانتها، ولكن فهمتها النساء اللواتي يعانين من نظرة المجتمع إلى أجسادهن عورةً ومن المحرّمات؟
نتذكر الفكاهة المؤلمة للرجل الذي ذهب إلى الطبيب، واصفا له الأعراض التي تشتكي منها زوجته، وطلب منه أن يصف له الدواء. وسمعنا عن نساء في مجتمعنا الذي ليس بعيدا عن معالي الوزيرة فقدن حقهن في الزواج والأمومة، لمجرد أنهن استأصلن الزائدة الدودية، والحجة أنهن انكشفن على الأطباء، أو أن أجسادهن أصبحت مشوّهة. وسمعنا عن نساء أصبن بسرطان الثدي، وتزوج أزواجهن بأخريات، وعشنا بوجع فقدان ضحايا مرض سرطان الثدي من العزيزات الغاليات أمهات وبنات جميلات وجارات وصديقات ومعلمات.
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.