ذبذبات التاريخ

12 ابريل 2016
لوحة للفنانة الاميركية أنابيل لي واشنطن (Getty)
+ الخط -
تشبه المهمة التي يؤديها أمثال الباحث المصري خالد فهمي تلك التي رأى نزار قباني أنها "حصرية" للشاعر، وفحواها أن يكون جهاز الرصد الذي يلتقط كل الذبذبات والاهتزازات والانفجارات التي تحدث في داخل الأرض، وفي داخل الإنسان. وهذا الأمر يُحتّم عليه أن يظل جهازه العصبي في حالة استنفار ورقابة، بحيث يستوعب كل حركة تحدث تحت أرض التاريخ كما تتحسس الخيول بقرب سقوط المطر قبل سقوطه. 

وينطبق الأمر خصوصًا على كل رحلة النبش الحادّ في الماضي التي يقوم بها بأناة المؤرخ، وتروم كشف سيرورة الدولة - المواطن في نطاق تحولات التجربة المصرية، بدءًا من محمد علي باشا وصولًا إلى أيامنا هذه.

ومع كل أهمية التفصيلات المثيرة للتفكير والتأمل التي يوردها في هذا الشأن، سواء في سياق هذه المقابلة أو ضمن أبحاثه ومقالاته العديدة، فإن تشخيصه للوضع الحالي يشكل أحد أهم ركائز "قاعدة بياناته" لقراءة المآل المصري الراهن.


يقول فهمي: "نحن نعيش [الآن] في دولة بوليسية. الدولة البوليسية لا تسيطر فقط بالقتل والتعذيب والسجن والاختفاء القسري. إن ما يضمن هذه السيطرة هو احتكار الخطاب والسردية. والدولة المصرية غيورة على رؤيتها لنفسها وعلى ما يقال عنها".

إنه تشخيص مهم لكونه يضع الإصبع على الخطر، ويحدّد جوهر التحدّي الراهن، ويستأنف على خيار الاحتماء بالعسكر، وينتصر لخيار آخر أوسع أفقًا وأنسًا.
الخطر الكامن بالأزمة الهيكلية العميقة للدولة، بسبب النظام الذي يسقط الدولة مرة تلو الأخرى.
والتحدّي بالإلحاح على استمرار فتح باب السياسة على مصراعيه، وعدم اقتصار السياسة على السياسيين، باعتبار ذلك ضمانة لا غنى عنها لاستمرار الثورة التي بدأت في 25 يناير 2011.

أمّا خيار الاحتماء بالعسكر فإن مخاطره لا تقل برأيه عن ميول جماعة الإخوان المسلمين التي توصف بأنها فاشية.
والانتصار هو أولًا وقبل أي شيء لخيار الدولة المستقلة الراسخة التي تخدم شعبها، وتسعى لإشراكه في إدارة شؤون الدولة.


ولا يجوز ألا نتوقف عند بحث فهمي حول وقائع ما يسميه بـ"إنتاج الماكنة العسكرية" التي تخدم السلطة المسيطرة. وهي عملية سبق أن تناولتها الكثير من الكتابات الأدبية، وكذلك عالجتها الفنون المشهدية وفي مقدمها السينما.

إن الوقود الرئيسي لهذه الماكنة هو عناصر الجيش والشرطة. وما يقوله الباحث في هذا الصدد بالنسبة إلى بلده على مرّ تاريخه الحديث، يمكن أن يُقال ويُسأل عن أي جيش ودولة.
فمثلًا يتباهى قباطنة إسرائيل بأن جيشها "الأكثر أخلاقية في العالم"، ولترسيخ هذه السردية يشنون في الوقت الحالي حملة ملاحقة ضد منظمة مدنية اسمها "لنكسر الصمت" تتولى نشر شهادات لجنود خدموا في الأراضي الفلسطينية المحتلة وتتضمن ممارسات خرق لحقوق الإنسان.

وفي مناسبة مرور عشرة أعوام على اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية قبل خمسة أعوام، نشرت هذه المنظمة كتابًا بعنوان "احتلال المناطق: شهادات جنود 2000 - 2010" ضم بين دفتيه شهادات أدلى بها مئات الجنود والجنديات من الجيش الإسرائيلي.

ووفق إجمال محرري الكتاب، تؤكد الشهادات الواردة فيه أن ممارسات الجيش الإسرائيلي في الأراضي المحتلة التي يجري إشهارها على أنها "ممارسات دفاعية" لا تمت بأي صلة إلى عنصر الدفاع، بل تهدف بصورة منهجية إلى تدمير نسيج المجتمع الفلسطيني، وإلى إحباط أي إمكان لتحقيق الاستقلال الفلسطيني القومي.


والأنكى من ذلك أن التفكير السائد لدى أوسع قطاعات الرأي العام الإسرائيلي أن السيطرة على هذه الأراضي المحتلة تهدف إلى الدفاع عن أمن سكان إسرائيل لا أكثر، غير أن الشهادات التي أدلى بها مئات الجنود والجنديات في الجيش بناء على تجربتهم المعاشة في أثناء الخدمة العسكرية تفنّد هذا الهدف جملة وتفصيلًا، وتسلط مزيدًا من الضوء على ممارسات دولة الاحتلال الوحشية التي تحوّل الذين يقومون بها إلى وحوش آدمية.

ولا بُد من ملاحظة أن الحملة على هذه المنظمة تتفاقم بالرغم من أنها تشدّد على أن الغاية القصوى من نشاطها هي إطلاق "جدل مدنيّ" داخلي حول الثمن الأخلاقي المترتب على هذه الممارسات بالنسبة إلى دولة الاحتلال، من خلال تجاهل تام لمعاناة الواقعين تحت نير الاحتلال، ولذا فهي لا تطرح مطلب التخلي عنه، خلافًا لمنظمات شبيهة تتمثّل بها نشطت خلال الحرب الأميركية في الفيتنام ورأت مهمتها في تسليط الضوء على الآثام المرتكبة بحق ضحايا تلك الحرب.
المساهمون