ديوان العرب

18 يونيو 2015
تاريخ العرب مدون شعراً (Getty)
+ الخط -
لم يكن هناك عربي، في عصور خروج هذا الشعب من وراء الفيافي والقفار إلى العالم، لم يتلفظ شعراً، أو نظماً. فهذا "فن العرب" وهذه "لعبتهم" إلى حد أنهم عندما راحوا يبنون دولة تضم أراضي وشعوبا لم يسمع، أغلبهم، بأسمائها من قبل، انفتحوا على كلِّ شيء متقدِّم لدى "الآخر"، باستثناء الشعر. نقلوا فلسفة ومنطقاً وعلوماً إلى لغتهم، ولكنهم لم ينقلوا شعر الآخرين، لأنهم لم يكونوا يحتاجون إلى ذلك.. أو هذا ما كانوا يظنون.

وقد فرَّق العرب، تفريقاً جوهرياً، بين الشعر والنظم. فلا يكفي أن يكون الكلام موزوناً ومقفّى ليوضع في خزانة الشعر، مثلما لا يكفي أن يكون المعدن أصفر لامعاً ليصبح ذهباً. اللمعان يذكِّر بالذهب غير أنه ليس كذلك، وللنظم هيئة تشبه الشعر (العمودي) غير أن العرب لا تسميه شعراً. الجاحظ شيخ النثر العربي وأحد ساخريه الكبار يردُّ على من يقول إن الشعر كلام موزون ومقفّى، وله معنى بهذا التنبيه: "اعلم أنك لو اعترضت أحاديث الناس وخطبهم ورسائلهم، لوجدت فيها مثل مستفعلن مستفعلن كثيراً، ومستفعلن مفاعلن. وليس أحد في الأرض يجعل ذلك المقدار شعراً".

هناك اتجاهان أيديولوجيان كبيران في الحياة العربية المعاصرة اهتما بالشعر، هما القوميون، بمختلف تسمياتهم، والإسلاميون. الأولون اهتموا بالشعر لاهتمامهم باللغة العربية باعتبارها رمز الهوية الجامعة، والأخيرون باعتبارها الممارسة اللغوية العربية الرفيعة بعد القرآن، بل المصدر الثاني للغة العربية بعد القرآن والأحاديث. ومن هنا نفهم موقف الإسلاميين المعارض، بشدة، إنكار طه حسين صحة الشعر الجاهلي، فالنظر إلى الشعر الجاهلي بوصفه منحولاً إنكار لإعجاز القرآن اللغوي.

فقد رمى القرآن قفاز التحدي اللغوي والفصاحة والبيان في وجه العرب في آيات مثل هذه: "قُلْ لَئِن اجْتَمَعَت الإنسُ والجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْل هذا القرآن لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه ولو كان بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً". والدليل على التلازم اللغوي، عند العرب المتقدمين، بين الشعر والقرآن هذا القول الذي ينسب لابن عباس وفيه يسكُّ المقولة الشهيرة: "إذا قرأتم شيئاً من كتاب الله فلم تعرفوه، فاطلبوه في أشعار العرب، فإن الشعر ديوان العرب". هذا رغم أن "سورة الشعراء" تلقي ظلالاً من الشك على الشعراء، وليس على الشعر، بوصفهم يهيمون في كل واد، ويقولون ما لا يفعلون.

لم يكن غريباً، والحال، أن تدخل القضايا الى القارئ العربي من باب الشعر. فالشعر حتى عندما لم يعد "ديوان العرب"، بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، كان معبراً عن تحولات الحياة العربية، وربما هاجساً بها قبل تبلورها. وباستثناء تياري القوميين والإسلاميين لم يتحول الشعر "سلاحاً" على جبهة "المواجهة" سواء مع الاستعمار، أو وكيله المحلي. فالتيار الشعري العربي الثالث (ممثلا بمجلة "شعر") اعتبر الشعر، بوصفه فناً ذاتياً، قضية بحد ذاتها وليس جندياً على جبهة القضية.

شاعرة داعش
هل أدى هذا الاعتبار المبالغ به للشعر عند العرب إلى أن يكون أداة حشد للقاعدة ومنافستها داعش في أيامنا الدامية هذه؟ ربما هذا ما يقوله مقال مطول نشر حديثاً في مجلة "نيويوركر"، بتوقيع المترجم والناقد الأميركي روبن كروسول وبرنار هيكل المختص بـ "داعش"، وقضايا الشرق الأوسط عموماً، وهو من أصل لبناني. "إذا أردت أن تعرف الجهاديين، اقرأ شعرهم"، هذا هو عنوان المقال، ومنه يبدأ، في نظري، خطأ المقاربة.

لا أعرف مدى علاقة برنار هيكل بالشعر العربي ولكني أظن أن روبن كروسول، الذي يشرف على قسم الشعر في دورية "باريس ريفيو"، وترجم شعراً عربياً حديثاً وروايات إلى الإنجليزية، يعرف الشعر العربي.. أو يعرف ما نعتبره اليوم شعراً وما هو ليس شعراً حتى لو اتخذ لبوس الشعر، ولكن معرفته وصداقته ببعض رموز الشعر العربي الحديث، لم تغلب على مساهمته في هذا المقال المطول. فالمقال يبدأ بداية خاطئة. فهو يعتبر النظميات الركيكة التي يكتبها "الجهاديون"، ونموذجهم هنا "شاعرة داعش"، أحلام النصر، شعراً. قرأت ما تيسر من "شعر" هذه الفتاة "الجهادية" على الإنترنت مثلما قرأه الكاتبان. فلم يسبق أن سمعت باسمها، ناهيك عن "شعرها" رغم عملي الطويل في الصحافة الثقافية. يكفي أن أورد لكم هذه الأبيات لتدركوا أن أي خطيب جامع، غير نبيه، في أي قرية عربية نائية بإمكانه أن يكتب أفضل كثيراً من هذا الكلام الموزون والمقفَّى.. الركيك:


نحنُ يا أختاهُ نحيا ... في ظلامٍ وَشرورْ 

بينَ آهاتٍ وَشكوى ... مثلما بحرٌ يمورْ 

دينُنا أمسى غريبًا ... وَبنوهُ في الهجيرْ

 كلُّ مَنْ رامَ المعالي ... صارَ مطلوبًا خطيرْ

سامنا بالظُّلمِ لؤمًا ... كلُّ جلاَّدٍ يجورْ

قدْ غدونا بعدَ هذا ... مثلَ بركانٍ يثورْ!!


شاعر المليون
يقول كاتبا المقال إن الشعراء العرب المعاصرين يقرأون الشعر الأجنبي ويترجمونه، والشعر الحر (التفعيلة على ما أظن) والشعر النثري (قصيدة النثر) هما الممارسة الشعرية المعتادة لديهم، ولكن الشعر القديم، رغم فقدانه بعض زخمه، لا يزال موجودا، على نحو مدهش، في الساحة الشعرية العربية. ويرجعان ذلك إلى كون الأخير هو المقرَّر في مناهج الدراسة العربية، وهذا صحيح بالطبع. لكن الخطأ في قولهما إنه لا يزال حياً ومتداولا في الفضاء العام مثالهما على ذلك: مسابقة تلفزيون أبوظبي "شاعر المليون" التي يتابعها نحو سبعة ملايين مشاهد عربي.

يبدو أن الكاتبين خلطا بين مسابقتين هما "شاعر المليون" و"أمير الشعراء"، فالأولى حكر على الشعر النبطي (الخليجي عموما وما جاور الخليج من بلدان)، بينما الثانية للشعر الفصيح.. العمودي وما يشبهه. ولكن مسابقات كهذه حتى لو شاهدها 7 ملايين مشاهد (أشكُّ في ذلك كثيرا) خصوصاً الفصيحة منها، لا تعبِّر عن وجود للشعر التقليدي في الحياة الأدبية العربية، فهو غير موجود على المستوى الإبداعي المجدّد لأنَّ ما تتاجر به هذه المسابقات، وما ينسج على مثاله، "شعراء الجهاد" الداعشي والقاعدي، ومن لفَّ لفهما، لم يعتبره القدماء شعراً فكيف سيعتبره الحديثون. وهذه عودة لمعركة الشعر العربي الحديث التي انقضى عليها أكثر من سبعة عقود.

إقرأ أيضاً: أغاني "المداحين"

تعطي مجلة معتبرة مثل "نيويوركر" حيزاً لـ "شاعرة داعش"، أحلام النصر، لا يمكن أن تفرد ربعه للأدب العربي الحديث مجتمعاً. فليس المهم هو "الشعر" بل من يقوله.. خصوصاً إذا كان الذي يقوله يقطع الرؤوس ويحرق السجناء أحياء أمام الكاميرا.
على الشعر العربي الحديث، الذي لا يقل أهمية عن شعر "المركز الغربي"، أن يبايع الخليفة البغدادي، لعله يظهر على صفحات النيويوركر!!
دلالات
المساهمون