ويحفل سجل ترامب بأرقام قياسية في عدد السوابق الانتخابية التاريخية التي توالت على الولايات المتحدة، منذ إعلان قرار ترشحه للانتخابات الرئاسية الأميركية عن الحزب الجمهوري قبل نحو سنة ونصف السنة. فقد دخل الرجل السباق إلى البيت الأبيض، بصفته رجل أعمال ونجماً تلفزيونياً يقتحم عالم السياسة من خارج المؤسسة الحزبية التقليدية، الجمهورية والديمقراطية. لا تنتمي عائلة ترامب إلى عائلة سياسية كعائلات كينيدي وبوش وكلينتون. وهو في هذا المضمار أقرب إلى الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما.
لكن الاختلاف الأساسي بين الرجلين هو السجال حول الشرعية الشعبية والسياسية والدستورية لكل من أوباما وترامب. وكان ترامب سبّاقاً في إطلاق سجال الشرعية قبل أسابيع من موعد الانتخابات، عندما كانت استطلاعات الرأي تظهر تقدم مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون، وذلك من خلال حديثه عن فساد النظام الانتخابي وتزوير الانتخابات. لكن المفارقة اليوم أن شرعية انتخاب ترامب هي محل مساءلة في ظلّ سابقة المقاطعة التي يتعرّض لها حفل تنصيبه رسمياً، إذ لم يشهد تاريخ الانتخابات الرئاسية الأميركية سابقة مماثلة، لامتناع نحو 50 عضواً في الكونغرس عن حضور الحفل الرسمي لتنصيب الرئيس الجديد.
يدخل دونالد ترامب البيت الأبيض وسط انقسام داخلي أميركي لا يخفي بعضاً من مظاهره العنصرية. ولا تقتصر المظاهر على المواجهة التي خاضها في الأيام القليلة الماضية مع النائب الديمقراطي من أصول أفريقية جون لويس، الذي يعتبر رمزاً من رموز حركة مكافحة العنصرية ضد الأميركيين من أصول أفريقية، بل تكمن في خلفيتها سجالات حول إدارة أول رئيس من أصول أفريقية والسياسات التي اتّبعها والإنجازات التي حققها، وكذلك الوعود الانتخابية التي فشل في تحقيقها.
كما يندرج طعن لويس بشرعية انتخاب ترامب، على خلفية التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، في سياق دفاع الأقلية الأفريقية عن تجربتها الأولى في الرئاسة. وأيضاً في سياق الدفاع عن إرث باراك أوباما، أول رئيس أميركي من أصول أفريقية، الذي كان ترامب أول المشككين بشرعية انتخابه عام 2008، من خلال إثارة الشبهات حول صحة شهادة ميلاده الأميركية. كذلك يتزامن موقف لويس، الرمز الديمقراطي، مع بدء الغالبية الجمهورية في الكونغرس الإجراءات القانونية لإلغاء خطة "أوباما كير" للتأمين الصحي التي يعتبرها الديمقراطيون من أبرز إنجازات الإدارة الأوبامية.
وتشكل قضية العنصرية أبرز الملفات التي تنتظر مقاربة جدية من إدارة ترامب لرأب الصدع الذي أحدثته الحملات الانتخابية مع الأقليات من أصول أفريقية ولاتينية، وكذلك مع المسلمين في الولايات المتحدة وفي العالم. ولا تشير تغريدات ترامب التي رد بها على حملة لويس ضده، إلى أنه يملك خطة واضحة المعالم لمعالجة الانقسامات العنصرية داخل المجتمع الأميركي وإيجاد حلول لمظاهر التمييز العنصري، تحديداً وضع حدّ لـ"الحرب الأهلية" بين الشرطة الأميركية والشبان من الأقلية الأفريقية في إحياء المدن الأميركية.
بالإضافة إلى ذلك، فقد استمع أعضاء الكونغرس خلال جلسات المساءلة للمرشحين لتولي مناصب حكومية في إدارة ترامب إلى وجهات نظر مختلفة عن مواقف الرئيس المنتخب، كموقف مايك بومبيو المعين في منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية من عمليات التجسس الروسية والتدخل في الانتخابات الأميركية، وموقف وزير الدفاع جايمس ماتيس من مواجهة النفوذ العسكري الروسي في أوروبا والشرق الأوسط. حتى أن موقف ريكس تيليرسون وزير الخارجية الجديد، المعروف بعلاقة الصداقة التي تربطه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عبّر عن وجهات نظر لا تتفق كثيراً مع ترامب، في شأن العلاقات بين واشنطن وموسكو.
على أن المواجهة المفتوحة مع أجهزة الاستخبارات الأميركية على خلفية تقارير التجسس الروسي، وبعد اتهام ترامب لمسؤولي وكالات الأمن الأميركية بتسريب تقرير استخباراتي فضائحي مشكوك في صحته، عُرف باسم "ملف ترامب"، ستبقى الأزمة الأخطر التي تهدد قدرة إدارة ترامب على تقدير المخاطر التي تهدد الأمن القومي الأميركي، وعلى رسم السياسات الخارجية التي تخدم مصالح الولايات المتحدة وأمنها الاستراتيجي.
لكن فريق الرئيس المنتخب يرفض التهويل بتداعيات ومخاطر عدم تطابق وجهات النظر بين ترامب ومسؤولي أجهزة الاستخبارات الأميركية. ويرى هؤلاء أن عدم وضوح العلاقة وغياب الثقة بين الجانبين سينتهي بعد تسلم الفريق الأمني الجديد مسؤولية ادارة وكالات الاستخبارات الأميركية الـ17. ويرجّح هؤلاء أن التغيير سيطاول أيضاً مدير مكتب التحقيقات الفدرالي جيمس كومي، خصوصاً بعد إعلان وزارة العدل الأميركية عن إجراء تحقيق في الاتهامات الموجهة له بالتدخل في الانتخابات ضد كلينتون.
وتتزامن التحقيقات مع مدير "إف بي آي" في مسألة انحيازه، وتأثير معتقداته السياسية على قراره المهني، مع تزايد الانتقادات لوكالات الأمن الأميركية المتعددة. وفي طليعة المنتقدين، فريق الرئيس المنتخب الذي اعتبر أن أجهزة الاستخبارات الأميركية تحولت إلى أداة سياسية بيد إدارة باراك أوباما.
يشكّ فريق ترامب في دقة تقارير أجهزة الاستخبارات الأميركية عن عمليات القرصنة الروسية، والتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية. حتى أن الرئيس المنتخب أعلن سابقاً، أنه "فور تسلّم السلطة سيشكّل فريقاً أمنياً خاصاً لوضع استراتيجية أميركية واضحة المعالم في قضايا الأمن الإلكتروني لحماية شبكة الإنترنت الأميركية من الهجمات وعمليات القرصنة والتجسس الإلكتروني.
وفي تشعبات العلاقة مع روسيا، تواجه إدارة ترامب تحقيقات أعلنت لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ أنها بصدد البدء بإجرائها، تتناول قنوات اتصال محتملة بين العاملين في الحملات الانتخابية الرئاسية الأميركية ومسؤولين روس، أشرفوا على إدارة عملية تسريب الوثائق المقرصنة من اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي، وبريد جون بوديستا مدير الحملة الانتخابية لكلينتون. وقد تصل هذه التحقيقات إلى الأشخاص المقربين من الرئيس ولا يستبعد أن تؤخذ شهادته وربما التحقيق معه، وهو ما يزيد من حجم التحديات الوجودية التي تواجهها إدارته.
لا شك في أن صحوة إدارة باراك أوباما المتأخرة، كموقفها من الاستيطان الاسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعدم استخدام حق الفيتو ضد قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2334، وكذلك العقوبات التي فرضتها على روسيا ستزيد من صعوبة المهمة أمام الرئيس المنتخب وتكبّل حركته في مجال السياسة الخارجية، وتعقّد أكثر عملية خلط أوراق التحالفات في آسيا وأوروبا والشرق الأوسط. وقد ظهر ذلك في مقابلة أجراها ترامب أخيراً مع صحيفتي "تايمز" البريطانية و"بيلد" الألمانية مخاوف أوروبية من السياسات المستقبلية لترامب، ومن أن يكون الاستقرار والأمن في القارة القديمة من أبرز ضحايا شعار "أميركا أولاً". فقد قدم ترامب صورة قاتمة جداً عن رؤيته لمستقبل أوروبا، متوقعا انفراط عقد الاتحاد الأوروبي بعد الخروج البريطاني، وأن تنهج دول أوروبية أخرى طريق الانفصال الذي سلكته بريطانيا.