دوما الحزينة

22 اغسطس 2015

في دوما بعد المجزرة (Getty)

+ الخط -
عبّر زملاء كتاب سوريون عديدون عن لومهم وغضبهم وعتبهم (بمقدار المحبة) على أسماء معروفة بمواقفها الشريفة الثابتة المناصرة لحق شعب سورية بالحياة الحرة الكريمة، والخلاص من نير نظام حكم انقلابي آثم غادر، وصل إلى أسفل درجات الانحطاط الأخلاقي، فضحّى، بجرة قلم، وفي سياق خطاب رئاسي رث مشين، بأرض وشعب مقابل كرسي من محض خديعة ووهم وتسلط وجبروت. باع واشترى وزاود وزيّف وافترى على الناس كذباً، أعواماً طويلة من الاستبداد المتوارث، جيلاً فجيلاً، بقوة القمع الإرهابي.
عبّر هؤلاء الأعزاء عن خيبة أملهم من التفاعل الفاتر الأقرب للحياد الذي أبداه كتاب عرب منخرطون في الشأن السياسي عموماً، والشأن السوري خصوصاً، مع الأخبار الدامية المفجعة عن وصمة العار الأحدث في جبين البشرية، مجزرة دوما الحزينة. وثمة من ذهب إلى أن التعبير عن الاكتراث جاء عند بعضهم، في حده الأدنى، وكأنه مجرد رفع عتب ليس أكثر. وكان ينبغي أن تكون الغضبة وفورة الدم بمقدار جسامة هذه الأهوال والفظائع التي يرتكبها النظام الأسدي المجرم، منزوع الضمير والأخلاق والمشاعر الإنسانية السوية، فاغتال في دوما، وبقلب بارد، مئات الأرواح الشابة لفتيان في عمر الورد الخاطف القصير الجميل، وهم الفئة المستضعفة المتحايلة على سواد الحياة ومرارتها يوما بيوم، يصنعون أسبابها ويأخذونها غلابا، نفروا من بيوتهم فجراً مطمئنين، واثقين إلى حتمية العودة مساءً إلى أمهاتهم المنتظرات المزهوات بكد صغارهن، كما يقتضي المنطق البسيط للحياة. ذهبوا، بمعية الصباح الواعد بالفرح، سعياً في مناكبها، يدللون، بأصوات حيوية ضاجة صاخبة متحدية على بضائعهم البسيطة من صناديق بندورة وأصناف خضروات عديدة، عل بيعها يوفر لهم كفاف يومهم الذي بات طويلاً شاقاً حافلا بالأسى، في ظل ظروف حياة شاذة شوهاء، باتت مستحيلة على كثيرين، هجّوا مرغمين، فابتلعتهم المنافي البعيدة ومخيمات الذل في الصحاري وشبكات الاتجار بعذابات البشر في قوارب الموت الذاهبة إلى مجهول أقل رأفة، مهما قسا، من إجرام نظام وحشي، فلت من أي عقال.
لا مجال للجدل في حق الزملاء الإحساس بالخذلان واليأس. حقا إنها حالة مثيرة للغيظ، ولا تقتصر على النخب، بل تتجاوز هذه اللامبالاة والتجاهل والغياب التام لمشاعر التضامن الإنساني الشارع العربي برمته، الغارق، عن سبق إصرار وترصد وعماء قلب وتيه، في بحر من الظلمات، منقاد بانضباط قطيعي، يليق بأغنام مسكونة بهاجس العشب، يهش عليه، فيزداد امتثالاً، تتحكم في وعيه فضائيات مأجورة، متخصصة في قلب المفاهيم وبذل محاولات بائسة، لتغطية شمس الحقيقة بغربال كذبة الممانعة التي باتت رخوة، كقطعة لبان مستهلكة، لا تثير في النفس سوى مزيد من الاشمئزاز، لفرط سوقيتها. تمر الممارسات الوحشية على زماننا، ونحن منغمسون في التفاهة والبؤس والبلادة، يربض الحزن ضيفا ثقيلاً في الجنيات المستباحة لأسواق دوما وأزقتها.
ثمّة مشاهد تكسر الفؤاد وتدميه، نغمض أعيننا عنها جزعاً ولوعة، وإحساساً مضنياً بالعجز والغضب، والرغبة في تحطيم شيء ما فوق رؤوس كثيرة أينعت بالظلم والغدر والعدوان، وحان الوقت لمثولها في محاكم الحق والعدالة، ليقتص منها ما اقترفته يداها في حق شعب أعزل، ناصر عبر تاريخه كل قضايا أمته التي، للمفارقة المؤسفة، خلفته متروكاً في العراء، حين أطلق صرخة الحرية في بدايات المخاض الطويل الشاق الذي سوف يفضي إلى ولادةٍ لا بد منها. ويظل الجانب الخطير في هذا المشهد السريالي العصي على التأويل حالة التعايش العجيبة مع المأساة السورية التي تعد أكبر حالة طوارئ إنسانية في التاريخ، بحسب خبراء في مجال الإغاثة، أما الجانب المفزع والأشد خطراً، فإنه يكمن في حالة التطبيع المتواطأ عليها، بشكل جمعي، مع الجرح السوري النازف، فيما نحن نواصل حياتنا بكل تفاصيلها، غير المثيرة للاهتمام بأي حال.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.