دلالات "الرواية الغبية"

03 ابريل 2016
+ الخط -
على الرغم ممّا حمله التاريخ المصري المعاصر من مراحل عصيبة، وفتراتٍ قاسية، وفتراتٍ طويلة ممتدة من الحكم الدكتاتوري التسلّطي الفردي، حتى في عهدة ما يسمى الحكم الوطني، جمال عبد الناصر مروراً بأنور السادات وحسني مبارك، إلّا أنّ ما وصلت إليه "الدولة" في عهد الرئيس الحالي، عبد الفتاح السيسي، بالفعل أمر غير مسبوق.
لا يُقصد، هنا، أحكام الإعدام التي كانت تصدر بالجملة على المئات، بلحظة واحدة، ومنهم أناس أموات، وآخرون لا علاقة لهم من قريب أو بعيد بالإخوان المسلمين، ولا كذلك عشرات الآلاف من المعتقلين، ولا التنكيل الإعلامي بالخصوم، ولا حتى ما سماه الزميل خليل العناني تفكك اليمين المؤيد للسيسي، بل ما هو أكثر دلالةً على هشاشة الوضع القائم، عدم قدرة الدولة على بناء رواية إعلامية وسياسية محترمة، ليصبح الإعلام المصري والرواية الرسمية المصرية مثاراً للسخرية والضحك والاستهزاء في دولٍ كثيرة.
جديد الأفلام كانت حادثة اختطاف طائرة مصر للطيران، الأسبوع الماضي، وكانت في رحلة داخلية من الإسكندرية إلى القاهرة، لإجبارها على التوجه إلى قبرص. القصة، بل الفضيحة، تمثّلت ليس فقط في أنّ "الخاطف" المفترض لم يكن يرتدي حزاماً ناسفاً، وأنّه وحده تلاعب بالمسؤولين الأمنيين جميعاً، من غير وجود شبهةٍ إرهابية، بل في مسارعة الأمن المصري إلى تسريب اسم الدكتور إبراهيم سماحة، أستاذ الطب البيطري في جامعة الإسكندرية، ورقم مقعده، واتهامه بأنّه المختطف، بل وربط مذيعون مباشرة بين الأكاديمي الذي كان متوجّهاً إلى أميركا لحضور مؤتمر علمي وجماعة الإخوان المسلمين.
اضطرّت الحكومة للاعتذار إلى الرجل الذي ملأت صوره شاشات الفضائيات المصرية، لكن من يعتذر للمصريين عمّا لحق بهم من إساءةٍ عبر هذه الروايات الغبية، والاستهتار بعقولهم والاستخفاف بهم إلى هذا المستوى الذي لم تصل إليه مصر في أيّ مرحلة في تاريخها.
الرواية الغبية التي أصبحت من معالم نظام الرئيس السيسي ظهرت، هي الأخرى، في موضوع مقتل طالب الدكتوراه الإيطالي، جوليو ريجيني، الذي وجد قبل أشهر مقتولاً قرب حاوية قمامة، بعد أن تعرّض لاعتداءاتٍ وحشيةٍ وهمجية، وأشارت صحف عالمية كبرى إلى شكوكٍ حقيقيةٍ حول مسؤولية أجهزة أمنية مصرية، نظراً لأنّ ريجيني كان يكتب في صحيفة مانفيستو، وهي صحيفة إيطالية يسارية باسم مستعار.
بالطبع، انشغل الإعلام المصري بالرد على هذه الدعاوى الغربية والأوروبية، من دون أن ينشغل بكشف الحقيقة في مقتل الطالب، وبدأ وصلات الردح المعروفة، بل ولم يتردّد إعلاميون في اتهام "الإخوان"، بدعوى أنّهم يريدون تدمير سمعة مصر.
أطلقت السلطات رواياتٍ متعددة في محاولة لتبرير الجريمة التي إن لم يرتكبها الأمن المصري، فهو عاجز تماماً عن كشف ملابساتها، لكنّ آخر تلك الصيحات - الروايات المدهشة إعلان النيابة العامة المصرية أنّ الأمن تمكّن من القضاء الكامل على عصابةٍ متخصصةٍ في خطف الأجانب وقتلهم، فأغار عليهم الأمن المصري وقتلهم جميعاً، أفراد العصابة، ووجدوا في حوزتهم جواز سفر ريجيني، مع بعض متعلقاته.
لم تقنع هذه الرواية الغبية الإيطاليين، بل حقنتهم بجرعة أخرى جديدة من الغضب، وعزّزت الشكوك لديهم بوقوف الأمن المصري وراء الجريمة، فأطلق وزير إيطالي تهديداً صريحاً لمصر بضرورة التعاون، وإلّا تحمّل العواقب.
ثمّة شيء غريب مع عهد السيسي، فكأنّ دولة الانقلاب العسكري أصيبت بحالة غباء شديد، إلى درجة أنّها لا تحتاج إلى أعدائها، بل إلى أصدقائها، بدءاً من توفيق عكاشة وصولاً إلى أحمد الزند، هم من يفضحونها، مروراً بالطبع بجهاز علاج الإيدز الذي يمكن أن يمثّل بحق فضيحة العصر.
في الخلاصة، كانت العهود السابقة دكتاتوريةً بامتياز، لكنّها كانت تملك روايةً أكثر تماسكاً تحترم، على الأقل، الحدّ الأدنى من العقل، أمّا هذا العهد فقد وصل إلى مرحلةٍ غير مسبوقة، وهو مؤشر مهم، لمن يعنيه الأمر، على ما يمكن أن تؤدي إليه محاولات ترميم الأنظمة السلطوية وإحيائها، بعد ثورات الربيع العربي.
محمد أبو رمان
محمد أبو رمان
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي في معهد السياسة والمجتمع.