دفن الفرعونية السياسية
يقرر جمال حمدان في كتابه "شخصية مصر" حقيقة مؤلمة ولكنها تجسد تاريخ وواقع مصر، حيث يقول إن (الديكتاتورية هي النقطة السوداء في تاريخ مصر، وهي منبع كل السلبيات والشوائب المتوغلة في الشخصية المصرية، فالفرعونية السياسية ما تزال تعيش بين أو فوق ظهرانينا وإن تنكرت بصيغ شكلية ملفقة هي الديمقراطية أو بالأحرى الديموكتاتورية، فمصر لن تتغير ولن تتطور إلى دولة عصرية وشعب حر إلا حين تدفن الفرعونية السياسية).
وأظن أن مصر تعيش الآن مرحلة الدفن والتي يسبقها بالتأكيد مرحلة حفر القبور، ربما ليصبح العسكرآخر فراعنة تاريخ مصر الحديث ليولد الشعب المصري الحر من جديد، لينفض شوائب التسلط والديكتاتورية التي علقت به طوال عقود فشوّهت شخصيته، وحطمت فطرته وأحدثت شرخاً كبيراً في بنية السلم الاجتماعي جعلتنا نرى الشماتة في الموت والرقص على الأشلاء والتهجير وهدم المنازل.
وكما كان الفرعون القديم يهتم ببناء قبره فالفرعون الحديث ومن حيث لا يدري يسارع بتجهيز ذلك القبر وكأنه يسابق الزمن في الحفر استعداداً للدفن.
وثنائية (الحفر والدفن) تتطابق مع ثنائية حالة (هرم دولة وبناء أخرى حديثة)، وما يجعلنا نعتقد ذلك أن دولة العسكر والتي بدأت وليدة عام 1954 مرت عبر ستين عاماً بمراحل الولادة والفتوة والجبروت لتصل مع بداية القرن الواحد والعشرين إلى حالة الكبر والشيخوخة والتي ظهرت بوادرها في حالة الفشل التي منيت بها في نهاية عصر مبارك على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وجاءت ثورة يناير 2011 كمرحلة دفن مبكر لدولة استبداد لم يرها الشعب إلا كما يرى جبل الجليد الذي يختفي أكثره.
لقد جاء الانقلاب في عام 2013 ليضع الشعب أمام اختبار حقيقي، وليؤكد أن دولة العسكر في حالة النزع الأخير وعلى الشعب أن يسترد كرامته وليجهز على بقايا الدولة الاستبدادية والتي لولا الانقلاب ما ظهرت بواطنها ومعالمها للكافة.
حالة النزع الأخير تتصف باللامعقول في القهر والاستبداد والقتل لأنها معركة النهاية، وهذا ما نشاهده من حالات المذابح الجماعية وقتل الشباب والنساء، واعتقال الأطفال وخطف البنات من الجامعات.
وفترات هرم الدول وبناء الدول الجديدة تتميز بكسر الكهنوت المقدس والذي كان لا يجرؤ أحد على مجرد التفكير في نقده، فينكشف وترفع عنه القدسية الزائفة ومثال ذلك في الحالة المصرية (القدسيات الثلاث) أولها الجيش الذي ساهم في هدم أكذوبة خير أجناد الأرض بمدافع الرشاشات الموجهة لصدور المواطنين وبالجرافات والدانات التي هدمت وهجرت أهل سيناء من بيوتهم، وثاني تلك المقدسات شموخ القضاء والذي تحطم إثر حبس أكثر من 40 ألف سياسي منهم أطفال ونساء، وصدور أحكام الإعدام بالجملة في فترة لا تعطي مجالاً للقاضي لمجرد قراءة اسماء المحكوم عليهم، ومذبحة القضاء بوقف القضاة الذين نادوا باحترام الدستور والقانون، أما عن ثالث المقدسات فالإعلام الرسمي حيث أن المصري في عصر الاستبداد والطغيان الفرعوني كان لا يثق ولا يستمع إلا لصوت واحد دلس عليه كثيراً بسقوط عشرات من طائرات العدو في الوقت الذي كانت فيه مصر تنال أكبر هزيمة في تاريخها الحديث، وكان يخبره أن مصر تسبق العالم كله في تقدمها في الوقت الذي ترتوي فيه بطون المصريين بالمياه الملوثة، فأصبح المستبد يخاف من جريدة تصدر في لندن ومن قناة تبث من قطر وهو يمتلك مئات من الجرائد والقنوات لأن الشعب حطم قدسية الإعلام المزيف.
وما يبشر أيضاً بأن حالة دفن الفرعونية السياسية بدأت وستنتهي الحالة غير المسبوقة للشعب في استمراره اليومي في مقاومة حالة القهر والاستبداد، وكذلك التحول الظاهر في فكر بعض الحركات الإسلامية الاصلاحية إلى الحالة الثورية مما يعد تغيراً نوعياً في معادلة الصراع.
نعم، يسارع العسكر بأفعالهم في سرعة دفن الفرعونية السياسية، وعلى الشعب أن ينتهز الفرصة وليكمل مسيرته فقد لاحت معالم الدولة الحديثة على أنقاض دولة الاستبداد.