دفاتر فارس يواكيم: بولس سلامة... "إن حظّي من الحياة سريرٌ"

26 اغسطس 2019
بولس سلامة مع زوجته أثناء مرضه (أرشيف فارس يواكيم)
+ الخط -
بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر)، عقوداً من حياته، مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ.
تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءاته مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس وغيرها من العواصم.


خضع الأديب اللبناني بولس سلامة في حياته لأربع وعشرين عملية جراحية. حطّم الأرقام القياسية في هذا المضمار. وبعدما كان ممشوق القامة قوي البنيان أصبح مقعداً لا يغادر منزله. ومن جراء ذلك تقاعد مبكّراً من سلك القضاء، واكتفى القاضي السابق بتأليف الكتب ونظم الشعر، حتى حطّم في النظم أيضاً أرقاماً قياسية. نظم ملحمتين شعريتين: "عيد الرياض"، و"عيد الغدير"، بلغ مجموع أبياتها أحد عشر ألف بيت. ناهيك عن المطوّلات الشعرية، مثل "عيد الستين" (684 بيتاً)، و"الأمير بشير" (300)، و"فلسطين وأخواتها" (319 بيتاً). بسبب هذه الغزارة في النظم اشتهر بلقب "هوميروس العرب"، وبسبب تحمّل وفرة الجراحات سُمّي "أيوب القرن العشرين".

كنت قرأت كتبه ذات الطابع الاجتماعي المرويّة بأسلوب ظريف لا يخلو من السخرية، مثل: "ليالي الفندق" و"خبز وملح" و"من شرفتي". وأعجبت خصوصاً بكتابين: "حديث العشية"، وهو مجموعة أحاديث إذاعية في الفلسفة والأدب والدين مصاغة بأسلوب مبسط جذاب، و"الصراع في الوجود"، وهو كتاب مهم يتناول تاريخ الفلسفة العالمية ويشرح أعقد النظريات الفلسفية بلغة في متناول الجميع مدعومة بالشعر أحياناً وبالأمثال الشعبية حيناً آخر.

أما الاكتشاف الأمتع بالنسبة إليّ فقد حدث سنة 1968. كنت انتقلت للسكن في ما أطلق عليه "الحيّ الجديد"، بين فرن الشباك وعين الرمانة في ضواحي بيروت. وبعد أسبوع علمت أن البناية المجاورة هي بناية بولس سلامة، وأن الشاعر يسكن في الطابق السادس.

ذهبت لزيارته فوجدته جالساً في صالون بيته يقرأ. عرّفته بنفسي فرحّب بي، وبادر بسؤالي "من وين حضرتك"؟ وقبل أن أجيب قال لي "لا تستغرب سؤالي. أنا أمضيت حياتي قاضيا. بدأت بمهمة مستنطق. وخدمت في أقضية لبنان جميعها. في جبل لبنان وطرابلس وزحلة ومرجعيون وحاصبيا". قلت له: "أمي زحلاوية وأبي من بلدة قيتولي في قضاء جزين. أرجو البراءة يا سيدي القاضي". ضحك وقال "أنا من بتدين اللقش. من قضاء جزين أيضا. وخدمت قاضيا في زحلة مرتين. وفي ذلك ما يكفي من الأسباب لأعلن براءتك". اكتشفت أنه يعرف أقارب لي من عائلتي الأبوين". ومنه عرفت أنه خال الكاتب والصحافي سمير عطا الله، وقال لي عنه إن في نثره شعراً صافياً.

كررتُ الزيارة وأصبحت زيارات. وفي كل مرة كنت حين أصل أجده منهمكاً في القراءة. قال: "ما عندي شغل الآن سوى القراءة والكتابة". في المرة الأولى حكى لي تفاصيل من الكتاب الذي بين يديه. بل وتجاوز التفاصيل إلى درجة أنه أوجز لي مضمون الكتاب، فخرجت من عنده كأني قرأته. كان الكتاب عن الفيلسوف الفرنسي تيّار دو شاردان، لكلود غينو، وقد ترجمه إلى العربية جميل جبر وجوزف أبو جودة. أثنى على الكتاب وعلى الترجمة فشجعني على اقتناء نسخة.
بعدها صرت أتعمد زيارته وأرجوه أن يوجز لي آخر قراءاته. وأستطيع أن أقول صراحة إنني قرأت نحو خمسين كتاباً بتلخيص ورواية بولس سلامة.

في سنة 1970 كنت معدّ البرنامج التلفزيوني "سهرة مع الماضي"، الذي قدمت حلقاته في التلفزيون اللبناني المذيعة المصرية اللامعة ليلى رستم. وكنا في كل حلقة نستضيف شخصية رئيسية نستعرض خلالها سيرة حياتها، وندعمها بالصور والوثائق وبمداخلات من شخصيات أخرى عرفت ضيف الحلقة الرئيسي فتكشف لنا جوانب من شخصيته، وربما كانت على خلاف معه فيتخلل الحلقة بعض الجدل الممتع. وكان بولس سلامة الضيف الرئيسي في الحلقة الخامسة. وإذ أتذكر الآن بسعادة الكمّ الهائل من اتصالات المشاهدين المعجبين، أتحسر في الوقت ذاته على أن تلك الحلقة بُثَّتْ مباشرة على الهواء ولا يوجد تسجيل منها. بعدها عاونني بولس سلامة أثناء إعدادي للحلقات التالية مع ضيوف آخرين، بأن روى لي معلومات عنهم أفادتني في إعداد الحلقات.

في الحلقة التي كان بولس سلامة ضيفها، ذكر نسب الرسول العربي في تسلسل متصل حتى بلغ سيدنا آدم. كانت ذاكرته فريدة من نوعها وكان يحفظ آلاف الأبيات من شعر الآخرين، باللغتين العربية والفرنسية. وهو دلّني وحمّسني على ترجمة ديوان الشاعر الفرنسي لوي أراغون "عيون إلزا"، إذ زرته مرة ووجدته يطالعه.

كان بولس سلامة ينتمي إلى المدرسة الكلاسيكية في الشعر العربي. يكتب القصيدة العمودية على بحور الخليل المعتادة. لكنه يتقبل التجديد حتى حدود شعر التفعيلة. وكانت له صلات صداقة مع معظم أدباء عصره، لكن أكثرهم زيارة له كان عمر أبو ريشة، الشاعر السوري المقيم في بيروت آنذاك. وفي بيت بولس سلامة تعرفت على عمر أبو ريشة. أول مرة فوجئت، إذ وجدت عمر أبو ريشة يتبادل الحديث مع زوجة بولس سلامة باللغة الإسبانية. ثم عرفت أن السيدة أدال اللبنانية من بلدة جون (قضاء الشوف) مولودة في المكسيك، وأن عمر أبو ريشة أمضى سنوات في أميركا الجنوبية سفيرا لبلاده في الأرجنتين وتشيلي، وهناك تعلّم اللغة الإسبانية.

وكنت ألتقي بولس سلامة في فصل الصيف في بيته الريفي في "بتدين اللقش" خصوصاً عندما أكون في بلدة قيتولي المجاورة. كان يحب الجلوس في شرفة منزله المطلة على وادٍ تغطيه غابة صنوبر تجعل النسيم بليلا. وضع كتابا بعنوان "من شرفتي". أحيانا قليلة يمسّه الحزن إذا تذكّر لسبب أو لآخر الجراحات العديدة التي تعرّض لها ويحكي عن أيام الشباب ورحلات الصيد. ويستعيد أبياتا من خاتمة مطوّلة "عيد الستين"، وفيها يقول: "أمْلَتْ عليَّ الفاجعاتُ، فحرّكت قلمي.. فكنتُ رسالةَ الإملاءِ (…) فصحوتُ لا أدري بما فعلت يدي.. أنثرتُ دمعي أم سكبتُ رثائي".

وفي مناسبة بلوغه السبعين كتب قصيدة بعنوان "ماض سعيد"، قال فيها: "على شرفة السبعين ودّعت ماضيا.. وشيّعتُ لمّاحَ الرؤى والأمانيا (…) نعيمُ حياة المرء ما دام غافلاً.. لقد شقي الإنسانُ مذ بات واعيا"! فسألته: هل الوعي شقاء؟.. ضحك وقال: لا. لكن الجهل راحة، في ما يتعلق بالشدائد. لقد سبقني المتنبي إلى المعنى في بيته الشهير "ذو العقل يشقى في النعيم بعقله.. وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ".

ورغم الظروف الصعبة لم يتخلَّ بولس سلامة عن سخريته أبداً. روى لي مرّة عن رجل دين (خوري الضيعة) تناول كتاب صلاة ليقرأ منه على مسامع المؤمنين فإذا به من أوله إلى آخره مكتوب باللاتينية. وهو يجهل كل لغات العالم ما عدا العربية! أخذ يقلب الصفحات لعله يعثر على شيء يقرأه فلم يجد إلا السطر الأخير مكتوب باللغة العربية فقرأه بصوت عال "طُبع في روما". وأخذ يردد العبارة عدة مرات بتنغيم أشبه بالترتيل! وقال بولس سلامة: "حين كنت في سلك القضاء اتفقت مع زملائي إذا همست لهم بعبارة "طبع في روما" فمعناها أن المحامي من هواة التطويل في المرافعات.

وحدث ذات مرة أن كان المحامي هو أديب الفرزلي في بدايات حياته المهنية. (نائب رئيس المجلس النيابي اللبناني سابقا، وعمّ النائب الحالي إيلي الفرزلي). وهو متحدث لكنه استرسل يومها في الحديث، فهمست بكلمة السر "طبع في روما"، فرفع زميلي الجلسة. وكانت هناك صداقة شخصية بينهما فدخل الفرزلي غرفة القضاة وقال لبولس سلامة: "رح تخربوا بيتنا.. أنا قابض من أهل المتهم المبلغ الحرزان.. وما خليتوني كمّل المرافعة. حرام عليكم. اتركوني احكي بالقرشين بعدين اصطفلوا.. دكّوه بالحبس!". وأعقب بولس سلامة ذلك بقوله: لكن أديب الفرزلي كان ذكياً وظريفاً بلا حدود. وأضاف: لقد تدرّج في مكتب ملحم خلف، المحامي الشهير يومذاك، ثم استقلّ بمكتب مجاور لمكتب الأستاذ، وعلّق لافتة باسمه بجوار اللافتة الأخرى وصار يقرأ العبارة متصلة "ملحم خلَّف أديب الفرزلي"! وكأن الأستاذ جعله خلفه! والطريف أن أبا أديب يدعى ملحم.

وحين أخبرتُ أديب الفرزلي بما سمعت، ضحك وقال "الأستاذ بولس بيمون.. اسأله عن القصيدة الهجائية اللي كتبها بالعامية عن مدام فلانة"، وذكر لي اسمها وقال إنها كانت سيدة بورجوازية مصطنعة ومتزلفة أغاظت الشاعر فهجاها. سمعتُ القصيدة من بولس سلامة وأروي هنا مطلعها مع حذف اسم السيدة: "مرة خطر للشيطان/ يعمل برمة بلبنان/ لبس كبوت وفسطان/ وصار اسمه مدام فلان".

طبعا لم ينشر الشاعر هذه القصيدة، ولم تسمح له الظروف بنشر قصائد أخرى. ومنها قصيدته التي كان سيلقيها في مهرجان تكريم أمين نخلة سنة 1973، وقد ألغي الاحتفال بسبب اغتيال الشاعر الفلسطيني كمال ناصر في بيروت قبل ثلاثة أيام وكان سيلقي قصيدة فيه. الشائع أن سعيد عقل كان سيلقي قصيدته في المهرجان باسم لبنان، والواقع أن الذي كان مكلفا تمثيل شعراء لبنان هو بولس سلامة. وقصيدته مطلعها: "هل كنتَ للفن إلا ذروةَ الأدبِ.. يا بلبل الريف، بل يا شاعر العربِ/ أطلقته غزلاً كالصبح رقّته.. فلا ضباب ولا ستر لمنتقبِ/ يمشي إلى القلب في لطف النسيمِ وفي سرّ الأشعة بين العين والهدبِ". والإحالة على "المفكرة الريفية" و"دفتر الغزل" من مؤلفات أمين نخلة واضحة.

وفي 1949 كرمت الكلية العاملية في بيروت بولس سلامة. واشترك في المهرجان سعيد عقل وألقى قصيدة تحية للقاضي الأديب. كتب في مطلعها: "قُلْ، والعظائم لا تملُّ.. والقولُ منك شذاً وفلُّ/ ورواية تُروىَ فيُسمَعُ للخيول الدهمِ صهلُ"، وختامها: "يا مغمداً يحمي العلى.. من ذا تكون إذا تُسَلُّ". وهي قصيدة لم ينشرها سعيد عقل في أيّ من دواوينه في مختلف طبعاتها. وقد ردّ سلامة التحية بقصيدة مطلعها: "ملكٌ يراعك يا سعيدُ.. فالخلد أيسر ما يريدُ"، وفي ختامها استعاد الشطر القائل "يا مغمدا يحمي العلى" وأضاف: "أسعيد يا علم الوفاء، ومن تُصان به العهودُ/ يفديك كلُّ مهنّدٍ، في نصله شرفٌ وجودُ".

كان القاضي الأديب بولس سلامة قد روى في كتابه "مذكرات جريح" الذي نشره سنة 1950 تفاصيل مرضه ومعاناته، ورحلته مع الأوجاع التي بدأت في صيف سنة 1936 وكان قاضيا للتحقيق في طرابلس، والتي دامت نيّفا وأربعة عقود. وقد ضمّن ذلك الكتاب أشهر قصائده في الألم. ومنها قصيدة "ألم"، التي تمنّى فيها الموت! "يا موتُ يا حلم الخيال النائي.. يا صبح آمالي وحلو رجائي/ شوقي إليك أشدُّ من غصص الهوى.. وأشدُّ من ولع الهجير بماءِ/ شوق الصبيّة نوّرت أكمامها، فتطيّبتْ لصبابةٍ ولقاءِ (…) يا موتُ يا ملك الحنان ظلمتني! وأدرْتَ سمعك عن جريح ندائي/ سالت على حدّ المباضع مهجتي، فشفارها مصبوغةٌ بدمائي/ كأسي على الألم الدويّ شربتها، ممزوجةٌ بمرارةٍ ودماءِ (…) أواه لو كان الرقاد يزورني، لرضيت من دنياي بالإغفاءِ". لكن زيارة الموت تأخرت نحو ثلاثة عقود فكانت وفاته يوم 14 أكتوبر/ تشرين الأول سنة 1979 عن عمر ناهز السابعة والسبعين. عندما جاءني نعيه كنت في الكويت، فطلبت لنفسه الرحمة وتذكرت بيتاً له يقول فيه: "طالَ في منقع العذاب مقامي، استراح الشقاءُ في مقلتيا".


دلالات
المساهمون