بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر)، عقوداً من حياته، مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ. تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءاته مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس وغيرها من العواصم.
اسمه أديب إبراهيم حداد، لكن الناس يعرفونه باسمه الفني الذي اشتهر به: "أبو ملحم"، وهو اسم الشخصية الدرامية التي ابتكرها وقدّمها في مئات الحلقات الإذاعية والتلفزيونية. وكما طغى الاسم الفني على الحقيقي، غطّت صفة الممثل على موهبة أخرى امتلكها، موهبة الشاعر ناظم الزجليات بالعامية اللبنانية التي جمعها في ديوان "زجليات أبو ملحم"، قدّم له رفيقه في مجال الكتابة والفنون وفي السياسة الشاعر وليم صعب.
في مدينة عاليه في جبل لبنان كان مولده سنة 1912. وفيها نشأ وإليها انتمى متبنيّاً تقاليدها وتراثها. درس في ثانوية "الجامعة الوطنية" وكانت بإدارة الأديب الشهير مارون عبود. وفيها تولّى مهمة التدريس من 1932 ولمدة سبعة أعوام. عام 1941 انتقل إلى الأردن للعمل مع أخويه هناك. وفي السنة ذاتها تزوج من سلوى فارس الحاج وأنجبا ثلاثة أبناء هم: زياد ودنيا ورغدة. وفي الثلاثينيات والأربعينيات قام كهاوٍ ببطولة تمثيليات من تأليف وليم صعب ومنها: "الأجنحة المتكسرة" و"يوسف بك كرم" وعمر بن الخطاب"؛ إلى جانب ما ألّفه هو نفسه مثل: "الحب في الضيعة" و"الحما والكنّة" و"خالتي القومية". وفي سنوات الشباب تلك كان أديب حداد ناشطاً في الحزب السوري القومي الاجتماعي، لكن ذلك الانتماء السياسي لم ينعكس في تمثيلياته الإذاعية والتلفزيونية التي ظلت في إطار المواضيع الاجتماعية.
وفي مقدمته لكتاب "زجليات أبو ملحم" ذكر وليم صعب أن أديب حداد كان موظفاً في شركة "شل" عام 1952 عندما أنتج في إذاعة "الشرق الأدنى" برنامج "جولات الميكروفون" فأبدع في وصفه وتمثيله. وسنة 1958 قدّم برنامج "صباح الخير" الذي بثّته محطة الإذاعة اللبنانية بمعدّل حلقتين في الأسبوع. كما أنتج لحساب إذاعة لبنان أيضاً برنامج "الدنيا صور" كاتباً وممثلاً. وبلغ مجموع هذه الحلقات نحو 500 حلقة.
اقــرأ أيضاً
وعندما تأسست شركة التلفزيون اللبنانية سنة 1959 تعاقدت معه فقدّم برنامجاً أسبوعياً بعنوان "أبو ملحم" حتى سنة 1965 ثم تبدّل العنوان بعدها وأصبح "يسعد مساكم". في كل أسبوع حلقة تمثيلية من تأليف أديب حداد وبطولته مع أم ملحم (زوجته في الحياة وفي التمثيليات)، ولميا فغالي، وإيلي صنيفر، وليلى حكيم، وسمير فوزي (درويش) كعناصر تمثيلية ثابتة، ينضم إليها في كل حلقة ممثلات وممثلون، وتقريباً مرّ بالبرنامج جميع الذين احترفوا التمثيل آنذاك. استمر في تقديم هذا البرنامج حتى عام 1984، وبلغ مجموع هذه الحلقات التلفزيونية ما يفوق الألف.
في لبنان ترعرع فن التمثيل في التلفزيون قبل ازدهار المسرح، ثم توزع محترفو التلفزيون على مختلف المسارح. وفي سائر البلدان حين نشأ التلفزيون كانت المسارح راسخة وأصبح ممثلو المسارح عماد التمثيل في الأفلام والمسلسلات التلفزيونية. وقبل نشأة التلفزيون في لبنان كان النشاط المسرحي محصوراً في بعض فرق الهواة أو فرقٍ تضم ممثلين أصبحت لديهم خبرة الاحتراف بيد أنهم غير متفرغين للتمثيل. بل إن أول عمل مسرحي قدمه منير أبو دبس وأنطون ملتقى كان في شركة التلفزيون اللبنانية. ثم قدّم هذان المخرجان المتميّزان أعمالاَ مسرحية متقنة لم تبلغ الجمهور العريض وظلت محصورة في النخبة، وكانت تعرض لليلة أو ليلتين أو لأسبوع على الأكثر، إلى أن اشتد عود المسرح اللبناني في منتصف الستينيات فتكوّن "الجمهور المسرحي"، وأصبح هذا الجمهور عريضاً مع تأسيس "المسرح الوطني" (شوشو ونزار ميقاتي) سنة 1965 وكانت العروض فيه يومياً.
وهكذا يمكن القول إن الشريحة العريضة من الجمهور الذي أعجب بفن التمثيل تأسست من متابعة برنامج أبو ملحم التلفزيوني. ووفق استطلاع للرأي أُجري سنة 1968، حلّ برنامج "يسعد مساكم" في المرتبة الأولى ونال إعجاب 52 في المائة من المشاهدين. وفاز أديب حداد (أبو ملحم) بلقب "أفضل شخصية تلفزيونية" بنسبة 24 في المائة. وليس هذا بالمستغرب، فلقد بنى أديب حداد شخصية أبو ملحم مراعياً العقلية المحافظة السائدة في المجتمع اللبناني في ستينيات القرن الماضي.
وبالنظر إلى مثاليتها الفريدة، كادت شخصية "أبو ملحم" التلفزيونية تتحول إلى شخصية قديس. فهو لا يخطئ أبداً، وهو صاحب النصيحة الغالية والعظة البليغة. هو حلّال المشاكل ومعين الفقراء ومؤاسي التعساء وسمير السهرات ومطلق الضحكات. وهو المتكلم بلغة أهل الجبل الغنيّة بالصور الشعبية والمطعمة بأبيات من الزجل واستعارات من الأمثال الشهيرة. وهكذا ترسخّت شخصية "أبو ملحم" في الوجدان الشعبي باعتباره داعية إلى الأخلاق الحميدة.
اقــرأ أيضاً
وفي مطلع السبعينيات من القرن الماضي تمّ تعيين بول طنوس مديراً للبرامج في شركة التلفزيون اللبنانية. (هو الذي أصبح لاحقاً المدير العام، ثم عضو مجلس إدارة شركة ماترا العملاقة في باريس). وكان بول طنوس ينتمي إلى النخبة الفكرية وحاملاً أفكاراً طليعية. ولم ينظر بعين الرضا إلى برنامج "يسعد مساكم" وإلى برنامج "أبو سليم" الفكاهي. وقرر تجميد عروض هذين البرنامجين. وحدث أن مثل هذا القرار قوبل بسخط من الرأي العام. وأذكر تماما أن رئيس الحكومة الأسبق الدكتور عبد الله اليافي اتصل بي تلفونيا وطلب مني أن أبلغ غضبه إلى مجلس إدارة التلفزيون. كذلك تلقيت آراء مشابهة من متفرجين عديدين، وأذكر أن زوجة رجل أعمال معروف قالت لي: "ليس للتلفزيون معنى من دون أبو ملحم وأبو سليم". وكان منير طقشي يشغل منصب المدير العام. وهو دخل مجلس الإدارة من باب الإعلانات إذ كان من قبل مدير الإعلانات في التلفزيون. ولكون التلفزيون مؤسسة خاصة لا تتلقى دعما من الدولة، فإن الإعلانات كانت مصدر الدخل الرئيسي. والمعلن يهمه بثّ الإعلان الخاص به ضمن برنامج يحظى بمشاهدة كبيرة. وعلى هذا الأساس تفاهم منير طقشي مع بول طنوس وتقررت إعادة بث برنامج "يسعد مساكم" وبرنامج "أبو سليم".
وحدث في صيف 1972 أن شوشو قدّم إحدى مسرحياته في بلدة في جبل لبنان. كنت معدّ نص هذه المسرحية. ورافقت الفرقة ليلة العرض في تلك البلدة. وكان سمير فوزي الذي اشتهر في برنامج "يسعد مساكم" بشخصية "درويش" أحد أعضاء فرقة شوشو، يؤدي دورا صغيرا إلى جانب مهمته الرئيسية: عمل الماكياج للممثلات والممثلين. بدأ العرض وظهر شوشو على الخشبة ولم يستقبله الجمهور بعاصفة من التصفيق كمثل التي كان الجمهور البيروتي يستقبله بها. بل إن النجم الكبير استقبل كأي ممثل عادي. إلى أن ظهر سمير فوزي على خشبة المسرح فدوّى التصفيق وعلت هتافات المتفرجين وهم ينادون "درويش! درويش!". كان المشاهدون حديثي العهد بالمسرح لكنهم من جمهور التلفزيون ومن المدمنين على برنامج "يسعد مساكم".
وكنت أتيتُ على ذكر الموهبة الأخرى التي امتلكها أديب حداد: موهبة الشعر الزجلي. وهو في ميدان الزجليات صاحب وجه آخر. في التمثيليات فرضت المواضيع الميلودرامية على أدائه طبيعة الجدّية. لكنه في زجلياته يكشف عن إنسان ظريف يملك حسّاً فكاهياً نقدياً. يوم أرسل السوفييت الكلبة لايكا في مركبة فضائية في أولى محاولات غزو الفضاء كتب أديب حداد: "الكلب الروسي إمبارح طار/ ومدري بأيا كوكب صار/ مش مستبعد بعد شويّ/ يحتلّ المرّيخ حمار".
وذات مرّة التقى أديب حداد بائع حلويات متجوّلاً ولم يعجبه منظره، فوصفه قائلاً: "بايع يصرخ يا أخوان:/ "نمّوره وسمسميّه" / ومن فوق الصدر الدبّان/ عامل غارة جويّه"! (النموره والسمسميه من الحلويات اللبنانية والصدر بالعامية اللبنانية يعني الصينية).
ومن مقطوعة زجلية عن القمر البدر أن شخصين من القرية اختلفا بشأن القرص المنير الظاهر أمامهما في السماء. "الأول قال انظر يا فلان/ هالشمس بنورا (بنورها) الوهاج/ سبحان الخالق سبحان". وأصر الثاني على أن الكوكب الظاهر هو القمر. وظل كلٌ منهما على رأيه إلى أن مرّ بهما رجل، فعرضا عليه خلافهما وطلبا تحكيمه "ها لْبسّما عم بيجول/ قدّ رغيف الترويقه/ إحكي كلام المعقول/ شو هو بالحقيقه؟". ويكمل أديب حداد القصة: "والتالت متل المسطول/ تأمّل بالبدر دقيقه/ وهزّ براسُه وصار يقول/ مش رح بقدر فيدكم شي/ أصلي مش من هالضيعه!".
كنت ألتقي أديب حداد في مبنى شركة التلفزيون اللبنانية أو كما أطلق عليها الناس القناة 7 لأنها كانت تبثّ برامجها العربية على موجات هذه القناة، أو "تلفزيون تلّة الخياط" نسبة إلى وجود المبنى في هذا الحيّ من بيروت. كانت اللقاءات في الفترة بين عامي 1969 و1975 التي أنتجتُ فيها برامج تلفزيونية ومسلسلات تمثيلية لحساب تلك الشركة، نشرب القهوة معاً في الكافيتريا الصغيرة ونتبادل أطراف الأحاديث الأدبية والنكات والطرائف.
كنت أسمع منه أزجاله وأزجال غيره التي يحفظ منها الكثير، من نظم المشهورين أمثال شحرور الوادي وخليل روكز أو من نظم ظرفاء مثل المحامي والنائب إميل لحود والطبيب الدكتور شرابيه والخوري يوسف عون. وكان أديب حداد يسترسل في الحديث عن وليم صعب بإعجاب. قال لي "هو ورث إمارة الزجل بعد وفاة رشيد نخله. هو شاعر كبير وأستاذ في نقد الشعر. عنده إحساس فريد بوقع كل مفردة. وكان ينشر صحيفة "البلبل" منبر الشعر العامي وفيها أشعاره وأشعار الغير. وهي التي تحولت إلى "بلبل الأرز" وفيها نشرتُ أنا أشعاري".
وكان أديب حداد يسألني عن الزجل المصري. أخبرني أنه كان يقرأ في المجلات المصرية أزجالاً فكاهية من نظم شاعر يوقع باسم "أبو بثينة". قلت له إن اسمه الحقيقي محمد عبد المنعم وهو شاعر تخصص في الفكاهة ونظم زجليات غناها الفكاهي إسماعيل يس، كما أنه ناظم كلمات أغنية "لمّا انت ناوي تغيب على طول" التي غناها محمد عبد الوهاب. ومرة كلّمني عن قصيدة لبيرم التونسي، غير قصائده المغناة، قصيدة "المجلس البلدي" النقدية اللاذعة، وسألني إن كنت أحفظ بعضا من أبياتها، فأسمعته ما أحفظه منها.
وذات يوم كانت الجلسة ثلاثية فيها أنا وأبو ملحم والكاتب والصحافي هنري الكك، وهو ابن عاليه أيضاً. واكتشفت يومها أن هنري الكك يحفظ الكثير من زجليات أديب حداد. وجاء الحديث على ذكر مسرحية "الحما والكنّه" الغنية بالأزجال. أخذ هنري يردد أبياتا وإذا التقط أنفاسه بين المقاطع كان أبو ملحم يلقّنه فورا مطلع البيت التالي! وفي أحد المشاهد نقدٌ لرغبة الأهالي في تزويج الأبناء على هواهم، وفيه يرجو الشاب أباه أن يترك له حرية الاختيار، خصوصا أن الفتاة التي رشّحها الوالد هي ابنة ضيعته، وهو يحب تلك الجارة من المدينة. قال: "يا أبي هالبنت حبّت جارها/ وجارها سكران ع أوتارها/ تجوّزتْ إنتَ وشفت حظك بالدني (الدنيا)/ اترك وحيدك زَوْجْتُه يختارها".
إضافة إلى معاناته مما آلت إليه أحوال لبنان خلال الحرب، تلقّى أديب حداد صدمة موجعة للغاية عندما سُرق منزله في عاليه وحُرق ودُمّر، فأصيب بشلل نصفي فلم يقوَ على العمل وتوقف برنامج "يسعد مساكم" التلفزيوني. وعانى أبو ملحم من المرض عامين ثم توفي يوم الأول من ديسمبر/ كانون الأول سنة 1986.
الصورة: لقطة من "يسعد مساكم"؛ من اليمين حنا معلوف، ولميا فغالي، أم ملحم وأبو ملحم، وإيلي صنيفر (أرشيف كلودا عقل)
في مدينة عاليه في جبل لبنان كان مولده سنة 1912. وفيها نشأ وإليها انتمى متبنيّاً تقاليدها وتراثها. درس في ثانوية "الجامعة الوطنية" وكانت بإدارة الأديب الشهير مارون عبود. وفيها تولّى مهمة التدريس من 1932 ولمدة سبعة أعوام. عام 1941 انتقل إلى الأردن للعمل مع أخويه هناك. وفي السنة ذاتها تزوج من سلوى فارس الحاج وأنجبا ثلاثة أبناء هم: زياد ودنيا ورغدة. وفي الثلاثينيات والأربعينيات قام كهاوٍ ببطولة تمثيليات من تأليف وليم صعب ومنها: "الأجنحة المتكسرة" و"يوسف بك كرم" وعمر بن الخطاب"؛ إلى جانب ما ألّفه هو نفسه مثل: "الحب في الضيعة" و"الحما والكنّة" و"خالتي القومية". وفي سنوات الشباب تلك كان أديب حداد ناشطاً في الحزب السوري القومي الاجتماعي، لكن ذلك الانتماء السياسي لم ينعكس في تمثيلياته الإذاعية والتلفزيونية التي ظلت في إطار المواضيع الاجتماعية.
وفي مقدمته لكتاب "زجليات أبو ملحم" ذكر وليم صعب أن أديب حداد كان موظفاً في شركة "شل" عام 1952 عندما أنتج في إذاعة "الشرق الأدنى" برنامج "جولات الميكروفون" فأبدع في وصفه وتمثيله. وسنة 1958 قدّم برنامج "صباح الخير" الذي بثّته محطة الإذاعة اللبنانية بمعدّل حلقتين في الأسبوع. كما أنتج لحساب إذاعة لبنان أيضاً برنامج "الدنيا صور" كاتباً وممثلاً. وبلغ مجموع هذه الحلقات نحو 500 حلقة.
وعندما تأسست شركة التلفزيون اللبنانية سنة 1959 تعاقدت معه فقدّم برنامجاً أسبوعياً بعنوان "أبو ملحم" حتى سنة 1965 ثم تبدّل العنوان بعدها وأصبح "يسعد مساكم". في كل أسبوع حلقة تمثيلية من تأليف أديب حداد وبطولته مع أم ملحم (زوجته في الحياة وفي التمثيليات)، ولميا فغالي، وإيلي صنيفر، وليلى حكيم، وسمير فوزي (درويش) كعناصر تمثيلية ثابتة، ينضم إليها في كل حلقة ممثلات وممثلون، وتقريباً مرّ بالبرنامج جميع الذين احترفوا التمثيل آنذاك. استمر في تقديم هذا البرنامج حتى عام 1984، وبلغ مجموع هذه الحلقات التلفزيونية ما يفوق الألف.
في لبنان ترعرع فن التمثيل في التلفزيون قبل ازدهار المسرح، ثم توزع محترفو التلفزيون على مختلف المسارح. وفي سائر البلدان حين نشأ التلفزيون كانت المسارح راسخة وأصبح ممثلو المسارح عماد التمثيل في الأفلام والمسلسلات التلفزيونية. وقبل نشأة التلفزيون في لبنان كان النشاط المسرحي محصوراً في بعض فرق الهواة أو فرقٍ تضم ممثلين أصبحت لديهم خبرة الاحتراف بيد أنهم غير متفرغين للتمثيل. بل إن أول عمل مسرحي قدمه منير أبو دبس وأنطون ملتقى كان في شركة التلفزيون اللبنانية. ثم قدّم هذان المخرجان المتميّزان أعمالاَ مسرحية متقنة لم تبلغ الجمهور العريض وظلت محصورة في النخبة، وكانت تعرض لليلة أو ليلتين أو لأسبوع على الأكثر، إلى أن اشتد عود المسرح اللبناني في منتصف الستينيات فتكوّن "الجمهور المسرحي"، وأصبح هذا الجمهور عريضاً مع تأسيس "المسرح الوطني" (شوشو ونزار ميقاتي) سنة 1965 وكانت العروض فيه يومياً.
وهكذا يمكن القول إن الشريحة العريضة من الجمهور الذي أعجب بفن التمثيل تأسست من متابعة برنامج أبو ملحم التلفزيوني. ووفق استطلاع للرأي أُجري سنة 1968، حلّ برنامج "يسعد مساكم" في المرتبة الأولى ونال إعجاب 52 في المائة من المشاهدين. وفاز أديب حداد (أبو ملحم) بلقب "أفضل شخصية تلفزيونية" بنسبة 24 في المائة. وليس هذا بالمستغرب، فلقد بنى أديب حداد شخصية أبو ملحم مراعياً العقلية المحافظة السائدة في المجتمع اللبناني في ستينيات القرن الماضي.
وبالنظر إلى مثاليتها الفريدة، كادت شخصية "أبو ملحم" التلفزيونية تتحول إلى شخصية قديس. فهو لا يخطئ أبداً، وهو صاحب النصيحة الغالية والعظة البليغة. هو حلّال المشاكل ومعين الفقراء ومؤاسي التعساء وسمير السهرات ومطلق الضحكات. وهو المتكلم بلغة أهل الجبل الغنيّة بالصور الشعبية والمطعمة بأبيات من الزجل واستعارات من الأمثال الشهيرة. وهكذا ترسخّت شخصية "أبو ملحم" في الوجدان الشعبي باعتباره داعية إلى الأخلاق الحميدة.
وفي مطلع السبعينيات من القرن الماضي تمّ تعيين بول طنوس مديراً للبرامج في شركة التلفزيون اللبنانية. (هو الذي أصبح لاحقاً المدير العام، ثم عضو مجلس إدارة شركة ماترا العملاقة في باريس). وكان بول طنوس ينتمي إلى النخبة الفكرية وحاملاً أفكاراً طليعية. ولم ينظر بعين الرضا إلى برنامج "يسعد مساكم" وإلى برنامج "أبو سليم" الفكاهي. وقرر تجميد عروض هذين البرنامجين. وحدث أن مثل هذا القرار قوبل بسخط من الرأي العام. وأذكر تماما أن رئيس الحكومة الأسبق الدكتور عبد الله اليافي اتصل بي تلفونيا وطلب مني أن أبلغ غضبه إلى مجلس إدارة التلفزيون. كذلك تلقيت آراء مشابهة من متفرجين عديدين، وأذكر أن زوجة رجل أعمال معروف قالت لي: "ليس للتلفزيون معنى من دون أبو ملحم وأبو سليم". وكان منير طقشي يشغل منصب المدير العام. وهو دخل مجلس الإدارة من باب الإعلانات إذ كان من قبل مدير الإعلانات في التلفزيون. ولكون التلفزيون مؤسسة خاصة لا تتلقى دعما من الدولة، فإن الإعلانات كانت مصدر الدخل الرئيسي. والمعلن يهمه بثّ الإعلان الخاص به ضمن برنامج يحظى بمشاهدة كبيرة. وعلى هذا الأساس تفاهم منير طقشي مع بول طنوس وتقررت إعادة بث برنامج "يسعد مساكم" وبرنامج "أبو سليم".
وحدث في صيف 1972 أن شوشو قدّم إحدى مسرحياته في بلدة في جبل لبنان. كنت معدّ نص هذه المسرحية. ورافقت الفرقة ليلة العرض في تلك البلدة. وكان سمير فوزي الذي اشتهر في برنامج "يسعد مساكم" بشخصية "درويش" أحد أعضاء فرقة شوشو، يؤدي دورا صغيرا إلى جانب مهمته الرئيسية: عمل الماكياج للممثلات والممثلين. بدأ العرض وظهر شوشو على الخشبة ولم يستقبله الجمهور بعاصفة من التصفيق كمثل التي كان الجمهور البيروتي يستقبله بها. بل إن النجم الكبير استقبل كأي ممثل عادي. إلى أن ظهر سمير فوزي على خشبة المسرح فدوّى التصفيق وعلت هتافات المتفرجين وهم ينادون "درويش! درويش!". كان المشاهدون حديثي العهد بالمسرح لكنهم من جمهور التلفزيون ومن المدمنين على برنامج "يسعد مساكم".
وكنت أتيتُ على ذكر الموهبة الأخرى التي امتلكها أديب حداد: موهبة الشعر الزجلي. وهو في ميدان الزجليات صاحب وجه آخر. في التمثيليات فرضت المواضيع الميلودرامية على أدائه طبيعة الجدّية. لكنه في زجلياته يكشف عن إنسان ظريف يملك حسّاً فكاهياً نقدياً. يوم أرسل السوفييت الكلبة لايكا في مركبة فضائية في أولى محاولات غزو الفضاء كتب أديب حداد: "الكلب الروسي إمبارح طار/ ومدري بأيا كوكب صار/ مش مستبعد بعد شويّ/ يحتلّ المرّيخ حمار".
وذات مرّة التقى أديب حداد بائع حلويات متجوّلاً ولم يعجبه منظره، فوصفه قائلاً: "بايع يصرخ يا أخوان:/ "نمّوره وسمسميّه" / ومن فوق الصدر الدبّان/ عامل غارة جويّه"! (النموره والسمسميه من الحلويات اللبنانية والصدر بالعامية اللبنانية يعني الصينية).
ومن مقطوعة زجلية عن القمر البدر أن شخصين من القرية اختلفا بشأن القرص المنير الظاهر أمامهما في السماء. "الأول قال انظر يا فلان/ هالشمس بنورا (بنورها) الوهاج/ سبحان الخالق سبحان". وأصر الثاني على أن الكوكب الظاهر هو القمر. وظل كلٌ منهما على رأيه إلى أن مرّ بهما رجل، فعرضا عليه خلافهما وطلبا تحكيمه "ها لْبسّما عم بيجول/ قدّ رغيف الترويقه/ إحكي كلام المعقول/ شو هو بالحقيقه؟". ويكمل أديب حداد القصة: "والتالت متل المسطول/ تأمّل بالبدر دقيقه/ وهزّ براسُه وصار يقول/ مش رح بقدر فيدكم شي/ أصلي مش من هالضيعه!".
كنت ألتقي أديب حداد في مبنى شركة التلفزيون اللبنانية أو كما أطلق عليها الناس القناة 7 لأنها كانت تبثّ برامجها العربية على موجات هذه القناة، أو "تلفزيون تلّة الخياط" نسبة إلى وجود المبنى في هذا الحيّ من بيروت. كانت اللقاءات في الفترة بين عامي 1969 و1975 التي أنتجتُ فيها برامج تلفزيونية ومسلسلات تمثيلية لحساب تلك الشركة، نشرب القهوة معاً في الكافيتريا الصغيرة ونتبادل أطراف الأحاديث الأدبية والنكات والطرائف.
كنت أسمع منه أزجاله وأزجال غيره التي يحفظ منها الكثير، من نظم المشهورين أمثال شحرور الوادي وخليل روكز أو من نظم ظرفاء مثل المحامي والنائب إميل لحود والطبيب الدكتور شرابيه والخوري يوسف عون. وكان أديب حداد يسترسل في الحديث عن وليم صعب بإعجاب. قال لي "هو ورث إمارة الزجل بعد وفاة رشيد نخله. هو شاعر كبير وأستاذ في نقد الشعر. عنده إحساس فريد بوقع كل مفردة. وكان ينشر صحيفة "البلبل" منبر الشعر العامي وفيها أشعاره وأشعار الغير. وهي التي تحولت إلى "بلبل الأرز" وفيها نشرتُ أنا أشعاري".
وكان أديب حداد يسألني عن الزجل المصري. أخبرني أنه كان يقرأ في المجلات المصرية أزجالاً فكاهية من نظم شاعر يوقع باسم "أبو بثينة". قلت له إن اسمه الحقيقي محمد عبد المنعم وهو شاعر تخصص في الفكاهة ونظم زجليات غناها الفكاهي إسماعيل يس، كما أنه ناظم كلمات أغنية "لمّا انت ناوي تغيب على طول" التي غناها محمد عبد الوهاب. ومرة كلّمني عن قصيدة لبيرم التونسي، غير قصائده المغناة، قصيدة "المجلس البلدي" النقدية اللاذعة، وسألني إن كنت أحفظ بعضا من أبياتها، فأسمعته ما أحفظه منها.
وذات يوم كانت الجلسة ثلاثية فيها أنا وأبو ملحم والكاتب والصحافي هنري الكك، وهو ابن عاليه أيضاً. واكتشفت يومها أن هنري الكك يحفظ الكثير من زجليات أديب حداد. وجاء الحديث على ذكر مسرحية "الحما والكنّه" الغنية بالأزجال. أخذ هنري يردد أبياتا وإذا التقط أنفاسه بين المقاطع كان أبو ملحم يلقّنه فورا مطلع البيت التالي! وفي أحد المشاهد نقدٌ لرغبة الأهالي في تزويج الأبناء على هواهم، وفيه يرجو الشاب أباه أن يترك له حرية الاختيار، خصوصا أن الفتاة التي رشّحها الوالد هي ابنة ضيعته، وهو يحب تلك الجارة من المدينة. قال: "يا أبي هالبنت حبّت جارها/ وجارها سكران ع أوتارها/ تجوّزتْ إنتَ وشفت حظك بالدني (الدنيا)/ اترك وحيدك زَوْجْتُه يختارها".
إضافة إلى معاناته مما آلت إليه أحوال لبنان خلال الحرب، تلقّى أديب حداد صدمة موجعة للغاية عندما سُرق منزله في عاليه وحُرق ودُمّر، فأصيب بشلل نصفي فلم يقوَ على العمل وتوقف برنامج "يسعد مساكم" التلفزيوني. وعانى أبو ملحم من المرض عامين ثم توفي يوم الأول من ديسمبر/ كانون الأول سنة 1986.
الصورة: لقطة من "يسعد مساكم"؛ من اليمين حنا معلوف، ولميا فغالي، أم ملحم وأبو ملحم، وإيلي صنيفر (أرشيف كلودا عقل)