استمع إلى الملخص
- الفيلم يوثق واقع الحرب الإسرائيلية على لبنان، ويطرح قضايا حساسة مثل العمالة لإسرائيل، من خلال رحلة الأم العائدة من دبي وشخصية طوني المسيحي.
- السينما اللبنانية لم تقدم معالجة شاملة للحروب الإسرائيلية، لكن "تحت القصف" يمثل نموذجًا لأهمية التوثيق السينمائي رغم الحاجة إلى معالجة أعمق.
في "ماستركلاس" لها، في الدورة الـ11 (19 ـ 25 سبتمبر/أيلول 2024) لـ"مهرجان طرابلس للأفلام" (شماليّ لبنان)، تغصّ الممثلة اللبنانية ندى أبو فرحات للحظات، عند استعادتها تصوير مشاهد لها في "تحت القصف" (2007)، للّبناني فيليب عرقتنجي. لحظاتٌ قليلة من صمتٍ مؤثّر. أناس يتابعون اللقاء في صالة جميلة، وأنا أبحث عن كلمةٍ لتُخفِّف بعض جوٍّ عابقٍ بانفعال جميل، رغم أنّ سبب الانفعال غير جميل البتّة.
جمال الانفعال منبثقٌ من صدق ممثلة، غير فاصلةٍ بين مهنةٍ وواقع، فـ"تحت القصف" يستعيد بحثَ أمٍّ (أبو فرحات) عن ابنها المفقود في "حرب تموز" (2006)، وأبو فرحات منغمسةٌ في دور يُشارك في توثيق بصري لحياةٍ، تُريد إسرائيل شطبها كلّياً، وفي شخصية تختزل نساءً لبنانيات، يواجهنَ مجدّداً قَهْرَ تهجيرٍ وقتل، ويغرقن في ركام وأنقاضٍ، لعلّ بين الركام والأنقاض روحاً باقيةً لابن/ابنة أو زوج أو فردٍ من عائلةٍ، تُشرّدها/تقتلها (أو تقتل بعضاً منها) حربُ إسرائيل تلك، لكنّها (العائلة) تُعاند قدراً، رغم خرابٍ غير مُحتَمل.
لحظات انفعال شديد تعكس شيئاً من ثقل استعادة ذاك الماضي، المُتجدّد في حربٍ إسرائيلية جديدة على لبنان، منذ 23 سبتمبر/أيلول 2024، بعد أشهرٍ طويلة من قصفٍ وتدمير يُصيبان بلدات وقرى ومدناً جنوبيّة وبقاعيّة أساساً، فيُهجَّر كثيرون وكثيرات، ويُقتَل آخرون وأخريات. قصفٌ وتدمير ونتائجهما المختلفة تُشكّل كلّها ردّاً إسرائيلياً وحشياً على "حرب الإسناد" (8 أكتوبر/تشرين الأول 2023). اللحظات هذه، الجامعةُ بين تذكّر ماضٍ وثقل راهن، تقول إنّ الممثلة غير منفضّة عن التزامٍ، أخلاقيّ على الأقلّ، إزاء الحاصل، سابقاً وراهناً. "تحت القصف" يريد لرحلة الأمّ، العائدة من دبي للبحث عن ابنٍ مفقود، أنْ تعكس شيئاً من درب جلجلةٍ، يعتاده لبنانيون ولبنانيات منذ أزمنةٍ، فإسرائيل تصنع حروباً وتشارك في حروبٍ، غير آبهةٍ بشيءٍ أو بأحد، فلا قيد ولا مُحاسَبة ولا ضغوط.
انفعالٌ تقوله بغصّة، ترافق كلاماً عن لحظات تصوير غير منفصلةٍ عن آثار قاهِرة لحربٍ إسرائيلية. فهي تتذكّر أطفالاً "نياماً" في غبار ودمٍ وحجارة، وأناساً يلهثون وراء أمل، ولو ضئيلاً، بلقاء أحبّة تنبض قلوبهم/قلوبهنّ رغم مُصابٍ قاسٍ.
في فيلمه الروائي الطويل الثاني هذا، بعد "البوسطة" (2005)، يذهب عرقتنجي إلى جنوبٍ ينهض من أشلائه، محاولاً التقاط أنفاسه بعد 33 يوماً من حربٍ إسرائيلية (12 يوليو/تموز ـ 14 أغسطس/آب 2006). يريد التقاط اللحظة بكامل واقعيّتها. يريد توثيق حاصلٍ قبل تغييبه بإعادة إعمار، أو بالنسيان. يريد إزالة كلّ عائقٍ بين عدسةٍ وملموسٍ، في نَفْسٍ/روح وذات ومادة، ليُنجز فيلماً يبدو متسرّعاً، سينمائياً، لكنّه شفّافٌ لشدّة ارتباطه بالواقع المحسوس والمَعيش. يريد إيجاد مُعادل بصري لخلاصة أولى لـ33 يوماً من القصف والتدمير والقتل والتهجير. يريد تعبيراً (بالصورة) عن موقفٍ له إزاء الحاصل، لكنّه يكتفي بإنجاز شهادة متواضعة عن عيشٍ عالقٍ بين موتٍ إسرائيلي وخرابٍ لبناني.
التسرّع المذكور غير حاجبٍ أهمية الموثَّق، والمفردة الأخيرة غير معنيّة بالنوع السينمائي، بل بما يحتويه النصّ البصري من التقاطٍ للحظاتٍ وحالاتٍ، يعيشها لبنانيون ولبنانيات. التسرّع مُلاحَظٌ، فالفيلم متواضع للغاية، كتابة (سيناريو عرقتنجي وميشال لِفيان) أولاً، مع أنّ حِرفية مهنيّة تظهر في تصويره (نضال عبد الخالق)، وفي اشتغالاتٍ فنية، إلى أداء تمثيلي (ندى أبو فرحات وجورج خبّاز) يكشف براعةً وصدقاً إلى حدّ بعيد.
غير أنّ حَصْرَ "تحت القصف" ببحث زينة الشيعية (أبو فرحات) عن ابنها المفقود، بعد وقتٍ قصيرٍ على إعلان وقف العمليات العدائية بين إسرائيل وحزب الله/لبنان، غير سليم، فعبر شخصية طوني المسيحي (خبّاز)، سائق سيارة الأجرة الوحيد الموافق على الذهاب معها إلى الجنوب، ستُطرح، مباشرةً ومواربة، مسألة العملاء اللبنانيين في إسرائيل.
توثيق لحظات إنسانية عدّة، مُنبثقة من آثار جُرمٍ إسرائيلي، في الجغرافيا والعمارة والبنيان والناس، يترافق (التوثيق) وطرح مسألة حسّاسة في الاجتماع اللبناني، المشرذم والمنهار والمتصادم بين مكوّناته الطائفية/الدينية والحزبية/المليشياوية والاقتصادية ـ الاجتماعية. العمالة لإسرائيل (هناك عملاء من طوائف لبنانية مختلفة) ملفٌّ خطر لبنانياً، والنقاش حوله بين أمراء الحرب المعلّقة/قادة السلم الأهلي الهشّ والناقص يزيد من انشقاقات البلد وناسه، ما يعني أنّه محتاجٌ إلى اشتغالٍ أكبر ومتخيّل أعمق، لا إلى تسرّع يُضيفه إلى حالة إنسانية عامة، تتطلّب بدورها اشتغالاً أكبر ومتخيّلاً أعمق.
الحرب الإسرائيلية الجديدة على لبنان، التي ربما تشغل سينمائيين وسينمائيات لبنانيين أولاً، تُذكِّر بأنّ حروباً إسرائيلية سابقة (1978، 1982، 1996، 2006) غير دافعةٍ إلى إنتاجات سينمائية روائية طويلة، رغم قلّةٍ منها تحاول سبر أغوار أفعالها (الحروب الإسرائيلية) ونتائجها ومعالمها. وثائقيات عدّة مُنجزةٌ أيضاً، لكنّ السينما اللبنانية، بأنواعها وأشكالها المختلفة، مُقصِّرةٌ كثيراً في مقاربة تلك الحروب، كما في طرح مسائل لبنانية مرتبطة بالمحتلّ الإسرائيلي.
"تحت القصف" نموذج يقول إنّ هناك إمكانية لإنجاز فيلمٍ عن حربِ عدوٍّ. قراءته نقدياً مسألةٌ سينمائية بحتة، غير مُلغيةٍ لأهمية الموثَّق فيه.