دروس من أفريقيا

01 فبراير 2017

بارو بين أنصاره في بانجول بعد عودته من السنغال(26/1/2017/الأناضول)

+ الخط -
عندما تناول، في كتابه "صراع الحضارات"، ظهور خطوط جديدة للمواجهة في العالم، بعد انتهاء الحرب الباردة، عدّد أستاذ السياسة الدولية السابق في جامعة هارفارد، صامويل هانتنغتون، ثماني حضارات رشّحها لأن تتنازع السيادة في النظام الدولي الجديد، أو تكون طرفاً في صراعٍ مرير في أثناء تشكله، من بينها، الحضارة العربية الإسلامية التي قال إنها يمكن أن تشكل تحدياً كبيراً للغرب، إذا دخلت في تحالفٍ مع الصين. لم يوضح هانتنغتون ما يقصده بالحضارة العربية الإسلامية، بوجود عشرات الدول ذات التوجهات والسياسات المختلفة التي تنضوي تحت هذا المسمّى، لكن المهم أن صاحبنا، متفقاً في ذلك مع أكثر باحثي الأنثروبولوجيا الغربيين، رفض بإصرار فكرة وجود حضارة أفريقية، نتيجة عوامل عديدة، منها سيطرة أنماط اجتماعية بدائية، وتلكؤ أفريقيا في تجاوز مرحلة الصيد إلى مرحلة الزراعة، وعدم تحقيق الأفريقي إنجازات مهمة في صراعه مع الطبيعة، والأهم من ذلك كله المناخ الحار الذي لم يساعد الإنسان في مناطق جنوب الصحراء على بناء حضارةٍ والدخول في مرحلة المدنية. طبعاً هذه نظرية عنصرية في الشكل والجوهر، لكنها ظلت مع ذلك سائدة في الأوساط الأكاديمية الغربية، حتى وقت قريب.
مع كل هذه النظرة الاستعلائية تجاه افريقيا، بدا مفارقةً ما حصل في غامبيا الشهر الماضي، اذ مال الرئيس المنتهية ولايته، يحيى جامع، في سلوكٍ طبيعي يعكس حب البشر للسلطة وشهوتهم للتملك، إلى عدم الالتزام بنتائج الانتخابات الرئاسية التي أسفرت عن فوز مرشح المعارضة آداما بارو. وخشية حصول نزاع مسلح في البلد الغرب أفريقي الصغير، ينعكس سلباً على أمنها واستقرارها، قرّرت دول الجوار، ممثلةً بالمنظمة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (أكواس)، وفي مقدمتها السنغال ونيجيريا، اتخاذ موقف مسؤول وتوجيه إنذار للرئيس الخاسر بضرورة الالتزام بنتائج الانتخابات، والنزول عند رغبة الشعب في التغيير وتسليم السلطة التي مكث فيها منذ عام 1994، بانقلاب عسكري. انصاع الرئيس الخاسر للإنذار، وخرج في وساطةٍ قادتها موريتانيا وغينيا.
وفيما كانت تجري مراسم تنصيب الرئيس الفائز في سفارة بلاده في داكار، دخلت قوات دول "أكواس" غامبيا لحفظ الأمن، خلال عملية انتقال السلطة، في خطوةٍ لاقت ترحيباً دولياً ومساندة من مجلس الأمن. وهكذا، انتهت عملية نقل السلطة في غامبيا، وتحققت إرادة الشعب، من دون سفك دماء بمساعدة دول الجوار التي تقاسمت الأدوار بين من مارس ضغطاً عسكرياً ومن تولى دور الوساطة، ما حال دون نشوب حربٍ أهلية، كان يمكن أن تأتي على غامبيا، وكل منطقة غرب أفريقيا.
لا يستطيع المرء، وهو يتابع تطورات الأزمة في غامبيا، وصولاً إلى نهاياتها، مقاومة إغراء عقد مقارنات بينها وبين ردود أفعال دول غرب أفريقيا التي رفض هانتنغتون الاعتراف بها حضارةً من جهة، وبين ما جرى ويجري في العالم العربي منذ عام 2011. وللمرء أن ينقّل ناظريْه كما يشاء، من ليبيا واليمن، مروراً طبعاً بالمحطة الأبرز في سورية، ويعاين بحسرة كيف سقطت دولةٌ، وانهارت أمةٌ، وتشرد شعب وقضى مئات الآلاف من أجل تعلق رجل واحد بالسلطة، وتمسكه بالبقاء فيها فترة أطول.
لو أن الدول العربية اتخذت إزاء الأزمة السورية الموقف الذي اتخذته دول غرب أفريقيا تجاه أزمة غامبيا، وأظهروا تجاهها الحزم والحكمة المطلوبين، لوفروا على السوريين، وعلى أنفسهم، كل هذا الدم والدمار، وأزمة اللجوء وانتشار الإرهاب والفكر المتطرّف، ولكانوا فوّتوا الفرصة على تغول إيران في المنطقة، وتدخل روسيا فيها، وغير ذلك من تبعات الصراع المدمر في سورية. لكن ظني أن النخب العربية الحاكمة، بخلاف نظرائهم الأفارقة، لم يكونوا يفكرون بتبعات الأزمة السورية على أمن بلدانهم واستقرار مجتمعاتهم، دع جانباً الاهتمام بتكلفتها على أشقائهم السوريين، بل كانوا يفكرون أنهم قد يضطرون الى استخدام المستوى نفسه من العنف ضد شعوبهم، فيما لو تعرّضوا إلى تحد مماثل. هذا ما صنع الفرق بين العرب والأفارقة في تعاطيهم مع تحديات من النوع نفسه، ورأيي أن هانتنغتون، لو كان على قيد الحياة، لأعاد ربما النظر في بعض آرائه، من باب المقارنة بين أزمتي غامبيا وسورية، وردود أفعال دول الجوار على كل منها، خصوصاً في كتابه الأقل شهرة "الموجة الثالثة.. الدمقرطة في أواخر القرن العشرين".